كان مقالي الأسبوع الماضي عن المرأة والسياسة وعن مدى أهمية أن يتفكر المسلم في دينه وألاَّ يعتمد على ما يسمع من تفاسير هنا وهناك! فتمهلوا سادتي واقرأوا قبل أن تصدروا الأحكام على دينكم، لأن ديننا اليوم يواجه إشكاليات كبيرة في الفهم. كتب لي الكثير بعد المقال بردود شرسة منظمة وكأن الحديث بالدين حصر عليهم، مفتين بموقف الإسلام من المرأة والسياسة! وكأن المعلومة مقصورة عليهم! وعلى الرغم من أني أشك أن أغلبهم لا يملك الكافي من المعلومة وإنما هي ثقافة القطيع التي تنخر في بعضنا اجتماعياً وسياسياً ودينياً، حيث برز بين ثنايا السطور قصور فاضح للثقافة والفهم لهذا الدين الحنيف! مما يؤكد قناعتي بأن البعض منا مازال يحفظ ولا يفهم! فتجدهم مستشهدين بحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، الذي جاء في صحيح البخاري عن أبي بكرة، عندما بلغ الرسول أن الفرس، بعد وفاة إمبراطورهم، ولوا عليهم ابنة كسرى «بوران» فقال الرسول «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة». وردي عليهم، مع دعوتي لهم للقراءة والتأمل بجملة المعطيات والظروف الملموسة لهذا الحديث، بالتالي: 1 – أن الآيات الواردة في القرآن الكريم عن بلقيس ملكة سبأ تخالف تماماً ما يريد منا بعض الفقهاء أن نفهمه من هذا الحديث، ولا يمكن لحديث صحيح أن يخالف وقائع تاريخية ثابتة ولا نصوصاً قرآنية. 2 – ملخص ما جاء في صحيح البخاري، وفتح الباري، ومصنف ابن أبي شيبة، وتاريخ الطبري، وتاريخ الإسلام للذهبي وغيرها، عن ذكر أسباب سياق الحديث ونسقه العام، مما يسهل علينا الإمساك بالمقدمات التاريخية والأسباب الاجتماعية والسياسية لفهم الحديث، يؤكد أنه قيل يوم معركة الجمل! فقد رواه لأول مرة عبدالرحمن بن أبي بكرة عندما خرجت عائشة -رضي الله عنها- أيام معركة الجمل واعتزل هو القتال، فحاولوا الربط بين التوقيت والنص! 3 – هناك من يذهب إلى أن حديث أبي بكرة هو خبر واحد وضعيف لكون أبي بكرة محدوداً في قضية اتهام بالقذف ولم يتب (محمد هيثم الخياط: «المرأة المسلمة وقضايا العصر») وقد قال الله عز وجل عمن حُدّ حَدّ القذف: «ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً... إلا الذين تابوا» (سورة النور)، وهذا يؤثر على عدالته وعلى سلامة حديثه. وبما أنه لم يتب لم يقبل المسلمون شهادته (وقد قال له عمر -رضي الله عنه-: تب أقبل شهادتك «ابن تيمية: دقائق التفسير») ولهذا فلا يصح الأخذ بروايته. 4 – أن من يجعل من هذا الحديث سنداً في التحريم لعمل المرأة السياسي فهو يستدل بالإجماع وليس على أي نص صريح في القرآن أو السنة الثابتة... فالحديث إخباري وليس إنشائياً وذلك بالنظر إلى المحتوى التاريخي وعلاقة الفعل السياسي وردوده، فقد كان سياق الحديث بعد مراسلة الرسول -صلى الله عليه وسلم- قيادات العالم بالدعوة الجديدة وكان كسرى ضمن أولئك الملوك الذين كاتبهم النبي. 5 – الحديث يخالف بنصه وقائع تاريخية ثابتة، فبولاية ابنة كسرى بداية لم يرد لولايتها أي ذكر في التاريخ الفارسي لا هي ولا غيرها، وعلى الوجه الآخر توقيت النص لا يتفق مع السياق التاريخي للحديث، حيث إن مكاتبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ل(كسرى) ملك فارس كانت السنة التاسعة من الهجرة (البخاري)، ثم تولى ابنه (شبرويه) الذي توفي بعد ثمانية أشهر من مقتل أبيه، ثم تولى ابنه (أردشير) وكان طفلا ابن سبع سنين وقتل بعد سنة ونصف السنة من ملكه، ثم ملكوا (بوران) بنت (شيرويه بن كسرى)، وتوفيت بعد سنة وأربعة أشهر من حكمها! والذي استوقف الباحثين هنا أن مراسلة كسرى كانت العام التاسع هجرياً، ثم تولى ابنه لمدة ثمانية أشهر ثم ابنه الآخر لمدة (عام ونصف) وهي في مجموعها تصل إلى (عامين وشهرين)، ثم تولت بعد تلك الحقبة (بوران) بنت شيرويه لمدة (سنة وأربعة أشهر)، أي أن مدة حكم الذكور من آل كسرى امتد من العام التاسع إلى ما يقرب العام الأحد عشر هجريا! والمتفق عليه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد انتقل إلى الرفيق الأعلى السنة العاشرة هجريا! أي قبل تولي بنت كسرى الحكم بعامين إن كانت تولته! مزاحمة القرآن والسنة التشريعية لأي سلطة أخرى يكمن خطرها في إمكانية تحول تلك السلطة إلى سلطة نصية مناظرة لسلطة القرآن والسنة التشريعية! وقد قال عمر -رضي الله عنه-: «ذكرت قوماً كتبوا كتاباً قأقبلوا عليه وتركوا كتاب الله»! والله المستعان.