قد يملك بعض كتاب الرأي البارزين، الكثير من العمق والموضوعية، والرأي الصائب والبناء، بل إن بعضهم يقدم عبر بصيرته الثاقبة آراء مبنية على الكثير من القراءة والبحث، ولكن ذلك لا يكفي وقد يدفع هذا الكاتب للكثير من الأخطاء، فيفتقد بذلك الكثير من الأدوات، مع افتقاد اليقين العلمي القابل للتصحيح بناء على منهجية راسخة، فأغلب كتاب الرأي يفتقدون للعمق ولا يقرؤون. هل يمكن لكاتب رأي أن لا يكون ملماً بالتطور البيولوجي وعلاقته بالتطور الاجتماعي هيمنة هذا التطور على الفكر العلمي في الجامعات الغربية والتي تقود الحضارة الإنسانية؟ هل يعتقد كاتب رأي أنه بحاجة لقراءة أصل الأنواع لتشارلز دارون، كي يفهم التطور البيولوجي، بينما هذا الكتاب تحول إلى تراث علمي، كما أن هذا التطور يمثل مسلمة علمية دخلت في كل العلوم حتى في علم النفس مع التفريق بين التولد التلقائي وبين التطور. هل يعتقد أغلب طلاب العلوم الشرعية أن نقض المنطق “الأرسطي” الذي انشغل به المتكلمون والفقهاء والفلاسفة العرب الأوائل، لازال موضوعاً قيد النقاش، مع عدم الإدراك بمناهج البحث العلمي الحديثة، والتي تختلف باختلاف التخصص؟. وهل يعتقد هؤلاء الطلاب على وجه التخصيص، أن قرض اللغة العربية ودراسة أسرارها، شرطاً لاعتبار العالم عالماً في العلوم الإنسانية والطبيعية، إن كانوا يعترفون بهذه العلوم؟. هل يعرف كتاب الرأي، المغالطات المنطقية التي أسس لها الفلاسفة اليونان ودورها في هندسة العقل؟، وهل هم مطلعون على مفهوم الجدل في الفلسفة، ودوره في بناء العقلانية؟. هل يدرك كاتب الرأي من هو “سيجموند فرويد” وما هو مشروعه في علم النفس؟، وإذا عرفه بعض كتاب الرأي، هل يعتقدون أن آراءه المتطرفة في الجنس، تعد أصولاً لعلم النفس؟! وهل يدرك كتاب الرأي هؤلاء، دور العلوم الاجتماعية في الثقافة، وطريقتها في تحويل الرأي الاجتماعي إلى رأي منهجي قائم على تراكم علمي وعلى خبرة مؤسساتية أكاديمية؟. هل يعرف هؤلاء الكتاب تأثير “النسبية” و”الكمومية” في العلوم الطبيعية على الفيزياء ودورها الانقلابي على مرحلة إسحاق نيوتن الكلاسيكية، وعلاقة ابن الهيثم في ترسيخ المنهج التجريبي في الفيزياء الحديثة؟، وهل يعتقد هؤلاء الكتاب أن النسبية والكمومية مع دورها التاريخي لازالت متسيدة للوسط العلمي، مع بروز النظريات الجديدة مثل الأوتار الفائقة، ومحاولات الوصول إلى نظرية نهائية في علم الكون؟ فضلا عن نتائج معمل سيرن، والتي مثلت مرحلة جديدة في الانقلاب على النسبية، واحتمال العودة بالزمن! أم يظنون أن كل هذا ليس له أي قيمة، رغم علاقته الوطيدة بكل تفاصيل الحياة التي نعيش، بدور هؤلاء النخب في توجيه وتأسيس الجامعات ومؤسسات البحث العلمي التي قادت المدنية الغربية إلى الأمام. لنتأمل مثلا في جامعة “كاوست”، والتي انشغل أغلب كتاب الرأي عند بدأ تأسيسها بقضية الاختلاط، بدلاً من الانشغال بأهدافها، مما يعكس حالة تأخر الاهتمام بالعلوم الإنسانية والفلسفية التي تساهم في مضاعفة الإدراك بالأولويات والاحتياجات وتساهم في ترسيخ العقلانية. إن الإسراف في قراءة الشعر والرواية وكتب التراث لا تصنع معرفة بناءة تساهم في بناء مدنية عقلانية، وحتى إذا قرأ أغلب كتاب الرأي فإن القراءة السائدة هي للشعر والأدب بدلاً من تمكين الفلسفة والعلوم الاجتماعية والطبيعية في وسط النخبة.