«الله يكفينا شر هالضحك». هي جملة لا بد وأن تحضر على ألسنتنا أو في أذهاننا إن حدث وضحكنا بشكل عميق. ولكونها تحمل كثيرا من الخوف والتوجس الذي يقتل كل مساحات التفاؤل والرؤى الإيجابية التي يأتي بها الضحك، لا بد أن تتصاعد في رؤسنا العديد من الأسئلة. لماذا تحضر هذه الجملة ؟ وماهي المضامين والدلالات والأسباب التي يحملها هذا الحضور؟ إلا أننا لا نطرح مثل هذه الأسئلة على أنفسنا نحن الأشخاص العاديين. وإن تساءلنا لا نتجرأ على البحث عن إجابات. لأننا اعتدنا على تلقي الإجابات بطريقة معلبة، فالإجابات محتكرة والمعرفة سلطة وصلاحيات لم يملكها على مر تاريخنا سوى رجل الدولة أو رجل الدين أو شيخ القبيلة وأخيرا رجل العلم النخبوي. هذا القتل المتعمد للجانب التحليلي المفكر من العقل العربي جعل الغالبية الساحقة منا تتصور بأن التفكير موهبة منحها الله لبعض البشر ولم يمنحها لبعض. وهذا غير صحيح بالمطلق. إذا استثنينا من يحمل إعاقة عقلية، فكل البشر يملكون إلى حد كبير نفس القدرة على التفكير والتحليل والاستنتاج، ولا يخلق الفرق بينهم سوى اختلافات الدوافع والأدوات المعرفية التي بالإمكان اكتسابها. لما لا نحاول الآن البحث عن إجابات مقنعة نسبيا، من خلال تتبع المعاني التي نعرفها بشكل منظم، ثم نربط الأفكار والمعاني مع بعضها لنصل إلى استنتاجات عقلانية. مجرد المحاولة برأيي قادرة على فتح كثير من آفاق الفهم، لأننا حينها نكتشف أن العلم سلس ولذيذ وأن النظريات ليست تراكيب معقدة لا يفهمها سوى الأذكياء والصفوة من الناس، كما سرب لنا أساتذتنا الأعزاء. وإنما هي مجرد تفاسير لحياتنا اليومية ولم يثبت خطأها إلى الآن. سنجد أن المضامين والدلالات التي تحملها أذهاننا للفرح والضحك، متسعة نوعا ما وبالغة الخصوصية. ففي الموروث الذي تشكلت منه العقلية العربية يعتبر الضحك تفاعلا موازيا للفرح، كثير من أيٍّ منهما يسقط الهيبة والمكانة الاجتماعية، في حين أن الضحك الشديد هو رسالة غيبية تحذيرية تحمل دلالة مستقبلية سيئة ونذارة شؤم،. هذا المعنى يستحق كثيرا من التوقف أمامه، لكونه برأيي يتجاوز معنى التطّير الساذج الذي ورثه العرب من جاهليتهم، ويشير إلى نوع من الممارسة التي تقصي الرؤية التفاؤلية للحياة وتكرّس الحزن والسوداوية في أذهاننا بشكل لا إرادي وبطريقة غير واعية. ومع تطورات العصر الحديث واختفاء الأساطير والخرافات، بتنا نعرف جميعا بأن الفرح/الضحك بمعناه التجريدي البحت ليس سوى سلوك بشري أو حالة إنسانية لا تمثل سوى ذاتها ووقتها كما أي حالة أخرى، وبالتالي لا تملك أي معنى على أرض الواقع أكثر من معناها الإصطلاحي، فكيف نتوقع بأنها تمتلك القدرة على استشفاف المستقبل . اللافت في الأمر أن كل معارفنا ومكتسباتنا العلمية لم تغير ريبتنا وتخوفنا الحقيقي من ما يحمله الضحك من إشارات مستقبلية سيئة وكأنه نذير شؤم فعلي. هذه النتيجة التي وصلنا إليها، تؤكد لنا أن القضية ليست قضية جملة موروثة بلا قيمة، أو حالة عاطفية عابرة، وأن إشكاليتنا تتجاوز المفاهيم والمصطلحات وسوء استخدامها، وتدل وبشكل واضح على أننا لا نعاني من تجذّر المفاهيم الموروثة من الماضي في عقولنا فقط، بل أن هناك خللا حقيقيا في عقليتنا والطريقة التي نرى من خلالها الأشياء، بما يخلق حالة تناقض قاتلة في منظومات القيم والمعارف التي يتشكل منها السلوك. من خلال هذا التحليل البسيط سنكتسب جانبين معرفيين مهمين برأيي. نكتشف أولا مقدار التناقض الذي تتعامل به عقلياتنا في تقييمها للأشياء، وأننا نستطيع تعميم حالة هذه الجملة على كثير من ممارساتنا الفكرية والمادية. وندرك ثانيا أن تصرفاتنا العشوائية وجملنا القصيرة العابرة وتفاعلاتنا الصغيرة مع الحياة والأشياء، هي نوع من السلوك الاجتماعي الذي يحمل في ثناياه كل الدلالات والمفتايح التي نستطيع من خلال تتبعها، دراسة أنفسنا واكتشاف مكامن الخلل والصواب فينا. ولذلك سأستمر من خلال المقالات المقبلة، في محاولات الربط والتحليل والاستنتاج على كل قصورها، وأتتبع كل الخيوط التي تمنحني إياها هذه الجملة الصغيرة، لعلها تمنحني تفسيرا أو تأويلا منطقيا قادرا على فهم عقلياتنا العربية وطرائقها غير المنطقية في التعاطي مع الحياة. سأحاول في البداية التعريف بعلم الثقافة والشخصية والنقلة النوعية التي أحدثها في الفكر الإنساني. قبل أن أنطلق منه لتقريب مفاهيم العقل والسلوك. وفي النهاية سأطرح بعض الأمثلة لبعض سلوكياتنا ومفاهيمنا.