هل نستطيع اليوم وبعد عقود - تمخضت عن تجارب شتى - الذهاب إلى تبني هوية سعودية ذات خصائص تستند إلى مرجعيات محددة؟ هل كل ما تعودنا عليه وتفاعلنا معه قادر على خلق صورة ناضجة ومكتملة تمثلنا وتميزنا عن غيرنا؟ هل يمكن للثوب والعقال وطريقة لبس البشت أو المشلح أن يدخل في صياغة جزء من هذه الصورة الذهنية النمطية، المشابهة ل «المايكرو» القيمي، الذي يحمل بين خطوطه الممغنطة الدقيقة ما نؤمن به حقيقة من دون مواربة، و«يمنهج» حياتنا بصورة رأسية عميقة؟. السؤال الآخر هل لدينا قدرة حقيقية على مواجهتنا من خلال بعث حال من الجدل والنقاش المكشوف بصوت عالٍ من دون الوقوع في فخ الحدية والاضطراب المؤديين تباعاً لفقدان البوصلة، والتسليم في النهاية للصوت الأقوى، سأضرب لكم مثالاً صغته من نكتة قديمة لرجل ذهب إلى دولة أوروبية لا يفهم من رطانتها إلا كلمة واحدة تعني البيض لسد جوعه في المطعم الذي يدخله، أحدهم علمه كلمة دجاجة وفرح بها، وعندما وصل المطعم نسيها وعاد إلى بيضه، هذه النكتة لا تثير الضحك اليوم فقد أصبحت سامجة بامتياز بسماجة الانسياق خلف ذوي الرؤية الأحادية التي شكلتنا كالقطيع، على رغم أننا في دولة لها مكانة اعتبارية بين الدول، وتحتل المكانة العظمى في الخليج العربي مساحة وسكاناً، الذي نتجه للاندماج الوحدوي بين دوله. أطرح هذه الأسئلة التي طالما راودتني، لا لكي ارتاح من عنائها؛ بل لنتشارك في هذا الحوار المقروء ونفكر لاكتشاف هويتنا السعودية؛ فهل هي هوية محددة ذات ملامح دقيقة؟ هل لها شكل ولون أو ذات نكهات تحفر داخلنا البعد الآخر منا؟ ثم أين هو ذاك البعد المخفي أو المدفون مع خصائصنا الدقيقة وجذورنا الفردية والجماعية؟! فالعالم الذي لا يستند إلى مرجعيات تراثية وتاريخية دقيقة وتفصيلية للأزمنة والأمكنة للجماعات والأفراد لن يقدر على صياغة مفاهيم قيمية ناضجة تقدمه إلى الآخرين بشكل محدد ودقيق، وكما يقول روبرت هويسون «الماضي هو أساس الهوية الفردية والجماعية، والأشياء التي تنسب إلى الماضي هي مهمة باعتبارها رموزاً ثقافية»، فمحاولة الخلاص من التاريخ القريب والبعيد للجماعات التي لا تزال حية، وما يتبع ذلك من طمر متعمد لعاداتها وتقاليدها وصهرها في قالب واحد، بحد ذاته إجراء وحشي وشرس لأصول الأشياء المتنوعة، فالقبيلة - مثلاً - التي تبحث عن امتدادها العرقي بغواية وجودية محضة، أي بهدف التعزيز النفسي لوجودها، هي حقيقة تبدد جهودها بما لا طائل منه ما لم تحفر خصائصها المميزة لها في القطر المحيط بها من عادات وتقاليد وموروثات، فالهنود الحمر داخل الولاياتالمتحدة لا يزالون يحافظون على كل ما يصلهم بماضيهم من عادات وتقاليد، ومع ذلك هم منخرطون داخل تفاصيل المجتمع الأميركي الدقيقة، نحن هنا نتشيأ داخل صورة نمطية عشوائية حتى لو اندسسنا أو توارينا داخل أخبية دينية تسهم بدورها في حياكة هذه الصورة النمطية التي سريعاً ما نخلعها فور الابتعاد عن وهجها المؤثر، وهنا تكمن المشكلة التي لم نتحلل من اسارها بعد، فالمرجعية الدينية، على وجه الخصوص، تدفع بثقلها الطاغي لتحديد مصائر المجتمعات، وأقول المجتمعات على خلفية التكوين الثقافي الخاص بكل جماعة على حدة، تلك التي توارت تحت طائلة الخصوصية المفتعلة للمجتمع الواحد المتكلف، لذلك التبست الحقائق بالتصورات، والأفكار بالمعتقدات، فلم يعد هناك سوى إملاءات غير مميزة وغير دقيقة. ثم ينبعث هذا السؤال: أين ذاك التمايز الخلاق لشرقنا وغربنا، شمالنا وجنوبنا، ولمن انحدروا إلينا من أقطار العالم، اليوم ثمة دعاة تمكنوا بقدرات فذة من صبنا في قالب كلي أو شكلاني واحد، ليس على مستوى الملبس والمشرب فحسب، بل على مستوى الفهم والوعي والإدراك حتى انطبع ذلك على السلوك، وانسحب على الثقافة وحتى الموروث الاجتماعي والفني، نحن رأينا كيف دفعت بعض الهزات الاقتصادية وتفشي البطالة والإرهاب وفقدان الأنظمة الحارسة وغيرها المجتمع السعودي للبحث عن أصولهم الضاربة في عمق التاريخ للاحتماء واتخاذها ملاذاً آمناً تجاه وحوش كاسرة موهومة تسمى الآخر، لحق بها تناظر جهوي وتباهي قبلي فج، ومع ذلك عجزت هذه الهويات التاريخية البديلة عن تمثيل شخصيتها الحقيقية المشمولة بعادات لم يكن التنازل عنها بالأمر الهين، لأنها مصدر فخر وعزة، كالكرم والحماية والعفو والتعفف عن التسول بالكذب والنفاق والسماحة، كما تخاذلت عن تمثيلها في الواقع الحي من خلال أنواع الفنون التي كانت تقطع بها وتيرة الملل، وتكسر بها حدة الطقس وصلف الحياة، هذه الهويات، في ما لو تمخضت عن هذا العمق المنسي منها، ستكون بمثابة التنويع اللذيذ الذي سيشكل طبق امتيازنا عن الغير، ويلون هويتنا السعودية بألوان زاهية سيقصي حدية الأفكار والتصورات للأشياء، وسيخلق من حولنا عالماً ممزوجاً بالمفارقات الجميلة التي لا غنى عن أي حركية تحديث عنها، المخاوف المصاحبة لهذا التبني تكمن في قدرة الدولة على السيطرة وتوجيه الجماعات، ما سيوجد حال من الارتباك الأمني والقيمي، ومنها نفهم لغة التشديد على رؤية عقدية أو مذهبية واحدة بعينها، وهذا بحد ذاته غير مقنع بشكل كافٍ، فدولة الدستور والقانون الحديثة، التي لا تفرق بين جنس وآخر وجماعة وأخرى، لديها القدرة العالية للملمة شعث هذا التنوع ودعمه وتمكينه من الوصول إلى مستويات عالمية من دون خوف أو وجل، وهذا سيمنح لأفراد الجماعات المتنوعة والمختلفة الكفاءة في تمثيل ذاتها، كما ستتمحور حول الوطن بتكاملية جلية، عدا ذلك فستظل رهينة الارتباك والخوف والتشكك تجاه كل الأشياء المغايرة والمختلفة، لذلك وفي ظل الأحداث ذات الوتيرة المتسارعة من حولنا. علينا التفكير ملياً بإعادة خصوصيات الناس إليهم، مع ضمانات ديمومتها وحراستها من خلال قوانين صارمة، ولعل التجارب السابقة تكون علمتنا جيداً كيف يمكن لأحادية الفكر والتوجه أن تفتح من داخلها جبهة صراع عنيفة، كما حدث مع المصنفين إرهابيين، بينما هم خرجوا من عباءة حال التدين المدعومة رسمياً، وإن حملت أعباء توصيفات وفلسفات تخرجها عن سياقها ومضامينها الحقيقية. * كاتب سعودي. [email protected] Twitter | @almoziani