في مجموعته الشعرية «ما تخيّلني بدونك»، يجلس مسفر الدوسري بركبتين محنيتين، أمام روزنامة، ينتزع منها أوراقا، بهدوء معفٍ من رصانة حزن، تتابعه الروزنامة بترقب، ويتعبها بجدل طري، يبعثر كل منهما الآخر، فتترتب كلمات: «تقعد كثير/ بس بالأخير/ تمشي ولا تترك أثر/ على كراسيها سوى: / باقي غبار الذكريات..»، تقترح قصيدة الدوسري على قارئها في دائما: إعادة صياغة لما سبق وأن مرّ، لا تطلب منه ذلك بشكل مباشر، فهي ومن دون صلف لا تنشغل بقارئها، تتخفف منه كثيرا، وربما نهائيا، وتخففه منها، لكنها تترك لهذا القارئ فرصة مراقبة ما يحدث بين الشاعر وما استعاد، وبإيحاء من ضوء فاتر لموسيقى حميمة، تسيّل القصيدة اقتراحها بأن يفعل قارئها الشيء ذاته، بالطريقة التي يجيد، وليس بكتابة شعر بالضرورة، ف: «القصايد مهي ما/ ما تطفّي النار أو تروي ظما/ القصايد مهي صبح/ يرضِّع الشّبّاك نور/ أو فضا عصفور/ أو يلمّ الظّلْما عن عرْي السِّما!»، غير أن (القصايد) هي طريقة مسفر الإنسان، الوحيدة فيما يبدو، لإعادة صياغة أيامه السابقة، واستعادة ذاته مجددا، وأحيانا اكتشافها للمرة الأولى، والغناء لها بفرح وليد: «إنتي أحلى ما كتبت/ وانتي أروع ما قريت/ وانتي أورق ما حلمت/ وانتي أشرق ما رأيت/ وانتي أروى ما عطشت/ وانتي أعطش ما رويت/ وانتي أخطائي الصغيرة/ وانتي أخطائي الكبيرة/ وانتي اللي كنت بَحْزَن/ لو عَقَلْت وما خَطِيت!»، ومثل مخرج مسرحي يحيل خشبة المسرح إلى قلب، يحيل الدوسري قلبه إلى خشبة مسرح، فكأن عنوان كل قصيدة ستارة تُفتح، وليست القصيدة سوى عرض مسرحي، أقرب ما يكون لمسرح الممثل الواحد (المنولوج)، إذ أن الآخر (الممثلة/ الحبيبة) رحلت من الحكاية، ولا يمكن استعادتها إلا عبر صوت الشاعر (الممثل/ الماثل الوحيد)، على مسرح يأخذ شكل الشقة (صالة الاستقبال، وغرفة النوم تحديدا)، يمكنك دائما التقاط مفردات موحية، تتناثر في كل قصائد المجموعة: (دريشة، نوافذ، باب، طوفه، ستاير، سجّاد، وسايد، مزهرية، سجاير، كاسات شاي، فنجال، سكّر، نعناع، قهوة، تسريحة، منظرة، روج، .. قارورة عطر، بخور، شموع، ساعة، جريدة، هدوم، ثياب، فساتين، شال،.. و..)، والخارج كله يأتي من الداخل: البحار والصحاري معا!، وداخل هذه الغرفة يحدث الشيء مرتين، مرة حين حدث، ومرة حين تمّت استعادته، متيحا إمكانية حدوثه مرة ثالثة، فأنت لا تنظر إلى المشهد، لكنك تنظر من خلاله أيضا.