شغف الإنسان في معرفة المستقبل عجيب مدهش. قد يصل بالبعض لأن يحترفوه ويجعلوه هدف بحد ذاته لا أداة لتحسين العيش. لن أتحدث هنا عن أمثال “القادمون” “The Arrivals” فهذه الفئة قديمة قدم التاريخ مريضة بالوهم المستقبلي الذي يسلي حاضرها. ولكني سأدلي بدلوي في محاولة للتنبؤ إقتصادياً على ضوء المعطيات الحالية. فالعالم يمر بفترة فريدة تاريخياً، لا تقع بالقرن الواحد سوى مرتين وهي مرحلة إعادة هيكلة الإقتصاد العالمي الذي ربما سيؤدي إعادة هيكلة القوى السياسية. في مثل هذه المرحلة، يمكن لنا إستثنائياً استخدام النظرة الشاملة “Macro Level” للتنبئ لتفاصيل أصغر لفترة محددة، وهي مغامرة كبيرة بحد ذاتها. أزمة 2008 لم تك سوى بداية ظهور الأعراض للتراكم المرضي للعادات الإقتصادية السيئة. يمكن تلخيص تلك العادات في سعي الإنسان الطائش في تسارع تطور مستواه المعيشي “Quality of Life” أكثر مما تسمح به المصادر الحقيقية المتاحة وذلك بواسطة حيلة إئتمانية وهي الدين. حيث أصبح الدين هو الأساس والتداول المباشر ثانوي لا يمثل ما نسبته 1على 32 منه. فصرنا نعيش وهمياً 32 مرة أعلى من حقيقتنا الإقتصادية. وصارت دول بلا إنتاجية حقيقية مثل آيسلندا واليونان تنعم مؤقتاً بالعيش الرغيد من خلال خلق المال الإلكتروني الذي سمي ديناً. هذا ما يظهر الوجه السلبي للرأسمالية والديمقراطية عندما تتزاوجا. فصراع القوى بين العمال ورأس المال وصل إلى هدنة عن طريق الدين وهي حقيقة جديدة في تاريخ الإقتصاد الإنساني تدل على تطور الفكر إنسانياً نحو المثالية. لكن لكل خلل مهما طال الأمد نهاية تزيد حدتها مع تأخر بداية نهايتها. كانت أزمة ما سميت “الأخوة ليمان” الموجة الأولى الحادة من موجات إليوت. نظرية أليوت تقول أن أي موجات تصحيح أو إرتفاع يجب أن تقع في ثلاث (موجتان في الاتجاه الرئيسي وواحدة معاكسة) أو بخمس موجات (ثلاث رئيسية وإثنتان معاكستان). لذا فموجة 2008 لم تك سوى الموجة الأولى وكانت الموجة الثانية هي الإرتداد خلال 2009 و2010. ويجب أن تؤول بنا الموجة الثالثة على الأقل إلى قاع الموجة الأولى على أحسن إفتراض. وللتمثيل، وصل النفط إلى 148 دولار وسقط إلى 38 (الموجة الأولى) وعاد إلى فوق المئة (الموجة الثانية) فتكون الثالثة على أقل تقدير إلى ال38 لتكون موجة منقطعة (أي ليست كاملة). فهل تكون أزمة أوربا الحالية شرارة الموجة الثالثة؟ قد تكون، فالمشكلة أكبر من رقعة الإصلاحات المزعومة مهما “مكيجوها”. أعتقد أن هذه المسكنات الإصلاحية قد تزيد من حدة الخسائر الكارثية. يجب على الحكومات الأوربية خصوصاً، الإعتراف بانتهاء دورها الإقتصادي القيادي الذي أمكنهم من التمتع بالمستوى المعيشي الأعلى على مستوى التاريخ القديم والحديث. فالنبوءة تقول، سيتم خلق المزيد من المال الإلكتروني لتقل فيه قيمة العملة مقابل السلع الرئيسية مما يعني إرتفاعها ولكن ليس بالقيمة التي خفضت في العملة. أي أن العملة والقيمة الحقيقية ستتقاسمان حمل التصحيح. هذا سيؤول إلى أن يعيش سكان كل دولة حسب إمكانات قيمتها الحقيقية حسب مواردها الطبيعية والبشرية ولفترة عقدين من الزمان على الأقل حتى يجد الإنسان حلول إلتفافية أخرى حول القيم الحقيقية.