كانت فترة منتصف التسعينات فترة غريبة في السعودية، كانت الساحة الثقافية على وجه الخصوص قد دخلت في مرحلة من الجمود والرتابة خصوصاً مع خفوت نفس معركة الحداثة بعض الشيء وتجميد معظم الأنشطة والفعاليات الثقافية أو تحولها إلى أنشطة معزولة لا يسمع بها أحد، وتوقف حركة النشر المحلي وتشديد الحظر على دخول الكتب الإبداعية وغياب أي معرض حقيقي للكتاب. في وسط ذلك الجو الغائم ظهرت صحيفة البلاد السعودية بوجه جديد ورؤية طموحة مع رئيس تحرير صغير السن مقارنة برؤساء التحرير في ذلك الوقت، اخترقت البلاد أجواء الرتابة تلك وصنعت صخباً محبباً بطرحها الجريء نوعاً ما والدماء الشابة التي دخلت ميدان الصحافة عبرها. في تلك الفترة الذهبية للبلاد ظهر عمود رشيق في الصفحة الأخيرة بعنوان «أضعف الإيمان» لكاتب صحفي هو داود الشريان، ورغم أنه صحفي مخضرم فإن ظهوره في جريدة البلاد منحه شعبية واسعة في المنطقة الغربية التي كان معظم القراء يتعرفون عليه للمرة الأولى. (لاحظ أن الإنترنت لم تكن موجودة في ذلك الوقت). كان الضيف الدائم على سطور المقال هو «الخال مدلج» الشخصية الكاريكاتورية التي يدير معها داود حواراً يومياً يتناول أحوال البلد بشكل نقدي ساخر، كان الخال مدلج مزيجاً مركباً من الفلسفة والنكتة والحكمة والهزل في آن واحد، وكان يملك سحر تمرير انتقادات حادة لأوضاع قائمة تتجاوز بمراحل سقف الحرية المتاح في ذلك الوقت دون أن تثير سخط أحد. وبرع داود في التماهي مع شخصية الخال مدلج التي أخذت تنضج وتتطور يوماً بعد يوم حتى أوشكت أن تصبح إحدى أيقونات الصحافة السعودية. كان داود الشريان في ذلك الوقت يؤسس دون أن يشعر لمدرسة الصحافة الساخرة في السعودية، وكان مؤهلا أن يحتل المقعد الفارغ على الدوام لرائد تلك المدرسة، كان بإمكانه أن يمنحنا أحمد رجب أو محمود السعدني أو أحمد بهجت السعودي. وكان من الممكن أن يحذو حذوه جيل جديد من الصحفين الشباب الذين بالتأكيد ستلفتهم تلك الموهبة الممزوجة بالخبرة وسلاسة العبارة. لكن شيئاً ما حدث لداود جعله يغير وجهته بشكل كامل. تحول داود بعموده الصحفي إلى جريدة الحياة، وبلا مقدمات تحول من عمود ساخر إلى عمود سياسي متجهم، واختفى الخال مدلج في ظروف غامضة، لكن داود ظل يعد القراء بعودة قريبة لم تتحقق قط. انغمس داود في الشأن السياسي الذي يتقنه ببراعة وظل مقاله موضع متابعة أينما حل وحيثما كتب، وعندما تحول المقال إلى الشاشة لاحقاً حصد نجاحاً لا بأس به، وخلال سنوات تقلب بين أكثر من شاشة وأكثر من برنامج حتى استقر في أتون الثامنة. وخلال كل تلك السنوات كان داود وفياً لفنه الصحفي ولرؤيته الواضحة للأحداث، لكنه شيئاً فشيئاً كان يفقد عذوبته، ابتسامته، نكهته الساخرة والباهرة، تحول المبدع إلى شخص ساخط محبط ضيق الأنفاس، أصبح أشبه بمن فقد الأمل في غد أفضل كان يظنه قريباً فتحول إلى مقاتل شرس لا يخشى شيئاً لأنه يعرف النتيجة مسبقاً ويرغب في تقليل الخسائر وقرع أجراس الإنذار لا أكثر. الجرأة المقرونة بالإعداد الجيد وكاريزما الرجل المحنك صنعتا نجاح الثامنة السريع والمستحق. لكن إلى أي مدى سيصمد البرنامج ويصمد داود بكل هذا الغضب المتراكم في أعماقه، بكل تلك الحدة التي تفلت من بين شفتيه بلقطات الكاميرا التي أحرجت المخرج أكثر من مرة وهي تنقل صورة بالغة التجهم لملامح داود وهو يحاور أحد الضيوف؟ ففي كل حلقة تقريباً يحرج المخرج ويضطر لتبديل الصورة القريبة بصورة بانورامية للاستديو حتى يخفي تلك الملامح الساخطة. ترى مالذي حل بذلك الساخر الباهر خفيف الدم صديق الخال مدلج وكاتب سيناريو حلقات طاش ما طاش ليتحول إلى ذلك القاضي الجلاد في كرسي الثامنة؟ صحيح أن هناك برامج عالمية كثيرة تناقش القضايا بذات الأسلوب الساخن، وتتعمد إحراج الضيف بأسئلة حادة وتقارير قوية، لكن ما مدى تأثير ذلك الأسلوب على واقعنا المزري؟ وكم حجراً سيلقي في البركة الراكدة قبل أن يأتي الاتصال بإيقافه أو تخفيفه؟ وما هو مقدار المكسب والخسارة عندما نقايض فلسفة وسخرية وحذاقة الخال مدلج ومدرسة كاملة من الإبداع الصحفي الساخر، نقايضهما بنظرات داود الغاضبة في ساعته الصاخبة على الدوام؟