عُرف الكاتب والصحافي السعودي الزميل داود الشريان الى جانب كتاباته السياسية وغير السياسية معدّاً ومقدّماً تلفزيونياً في برنامجه «المقال» على شاشة فضائية دبي، والذي توقف قبل نحو عامين، واستضاف فيه مسؤولين ومفكرين ومثقفين وناشطين، حاورهم ببعض الجرأة والعمق. وكان يختتم البرنامج بتعقيبه على ما قيل في الحوار، بنوع من التقييم وإبداء الرأي ووجهات نظر في ما طرحه الضيف من دون حضوره. ويعود الشريان إلى التلفزيون، على شاشة «العربية» هذه المرّة، في برنامج «واجه الصحافة» الذي نجحت إعلانات عنه منذ أسابيع في أن تجعل كثراً ينتظرونه، ولم تكشف تلك الإعلانات، في «العربية» نفسها، عن طبيعة البرنامج ومشاغله، حتى شاهدنا الحلقة الأولى منه، يوم الجمعة الماضي، وبان قُدّامنا أن الشريان ليس وحدَه من يحاور الضيف، بل ثمة آخرون معه، من أهل المشاكسة والمغايرة، والمواجهة ربما، من بين المشتغلين بالكتابة والصحافة، كما تركي الحمد وجمال خاشقجي وبدرية البشر، وهم الصحافيون والكتاب السعوديون الذين شاركوا داود الشريان «المواجهة» مع وزير الثقافة والإعلام في بلدهم الدكتور عبد العزيز خوجة. إنها، إذن، ضربة البداية في المواجهات التي وعد بها الكاتب المعروف مشاهدي برنامجه الجديد، تُوضح مسار البرنامج وكيفيات التسديد، والتباري فيه مع مسؤولين وصناع قرار وأهل سياسة وفكر في العالم العربي، على ما نُخمن نحن من تابعوا «المحاورة» الناحجة مع الوزير خوجة، والتي بدا فيها قادراً على صدّ الهجمات والكرات التي كانت تُرمى في مساحته، وإن عمدَ الضيوف إلى تنويع زوايا توجيه تلك الكرات في غير مسألة في شأن الصحافة السعودية وراهنها، والرقابة عليها وعلى الكتب، واقتران الثقافة بوزارة الإعلام، وغير ذلك من مسائل، نجا الوزير عبد العزيز خوجة في إجاباته في شأنها من أي إحراج، بل استطاع أن يظهر في صف أهل الصحافة والكتابة في بلاده، مناصراً لحريّةٍ يجب أن يتمتعوا بها، ومن موقع المسؤولية، بل وبدا منتقداً - إلى حد ما - لممارساتٍ بيروقراطيةٍ في العمل الحكوميّ والوظيفيّ المتعلق بالإعلام والصحافة، وإن بالتلميح. وبدا أيضاً، في تلميح أكثر، مسانداً لفصل الثقافة عن الإعلام في وزارتين، وتكشف لمشاهدي «المواجهة» أن الوزير الشاعر، والديبلوماسي العتيق، وأستاذ الكيمياء التي يحمل الدكتوراه فيها، تحبيذَه ذلك، وتفضيلَه تعيين المسؤوليات في القطاعين بكيفيات إداريةٍ مغايرةٍ للقائمة حاليّاً في بلاده. تحد ولأنّ الكيمياء تقوم أساساً على احتساب المقادير، وبدقّة شديدة، عند اختلاط العناصر ببعضها لإنتاج مواد جديدة، فإن الدكتور عبد العزيز خوجة، نجح في إعطاء المسائل التي طُرحت عليه أوزانَها وأحجامها، من دون تعظيم شأنها، أو التهوين من حضورها. وفي واحدة من إجاباته، عقّب داود الشريان عليه بأنه فيها غَلَب محاوريه الضيوف، وعندما صرّحت بدرية البشر بأن واحدة من إجاباته غيرُ مُقنعةٍ لها، عقّب الوزير بتوضيح بدا مقنعاً للمشاهدين إلى حدّ ما. وكانت لافتةً إجابتُه عن منع الكتب والرقابة المشددّة المسبقة عليها، في إجراءات التفتيش في المطارات والحدود، بأن كل كتابٍ مسموح، باستثناء التي تتضمن إساءات للذات الإلهية والرموز الدينية وقادة المملكة، وليتصل به شخصياً من تتم مصادرةُ كتب معه لا تتضمن شيئاً من ذلك. ولمّا أشار إلى هذه الممنوعات من التجاوزات، عقّب بعض «مواجهيه» بالموافقة، وبأنهم أصلاً لا يسمحون لهذه الأمور. وكانت براعة الديبلوماسي عبد العزيز خوجة أوضح ما تكون في إجاباته على أسئلة لداود الشريان عن حجب مواقع إلكترونية في السعودية، في تأشيره إلى أنّ لا علاقة لوزارته بهذه المسألة، وعما إذا كان من الأنسب لها أن تتولى هذه المسؤولية، أخذ الوزير محاوريه إلى مسألة ضرورة «تنظيم» تواصل السعوديين مع المواقع العديدة على شبكة الإنترنت، بالنظر إلى التدفق الهائل فيها للمعلومات والصور. وبذلك، لم يبدُ خوجة مناصراً للرقابة على تلك المواقع أو حجبها، كما لم يظهر في موقع من يجيز إباحة الإطلاع عليها كيفما اتفق، ورأى في مفردة «تنظيم» العملية حلاً، طالما أن الصحافيين والكتاب الذين يواجهونه شغوفون بلعن الرقابة ومنحازين لإلغائها، ومع معالجة الشوائب التي تظهر مع حريّة الإعلام بالمزيد من الحريّة. والتقى الوزير مع محاوريه الذين اختيروا قصداً من بين النخبة الليبرالية في الوسطين الثقافي والإعلامي السعودي، في أن الصحافة في بلادهم باتت تعرف انفتاحاً وتقدماً في أجواء النقد والانتقاد أفضل كثيراً مما كان سابقاً. وظل الدكتور خوجة يذكّر بهذ الأمر، حين يظنّ أحدُ محاوريه الأربعة أنه سدّد رميةً تحقق هدفاً في ملعبه. وكان لافتاً قول بدرية البشر في الدقائق العشر الأخيرة، بعد مغادرة الوزير الشاشة، إنها يَحدُث أن تكتب تعبيراً أو رأياً في مقالة لها للنشر في صحيفة سعودية، وتُخمن أنه قد لا يمر، ويفاجئها مروره العادي. وربما يجوز القول إنّ في إعلان كاتبة سعودية هذا الأمر، عقب محاورة وزير الإعلام في بلادها في شؤون الرقابة والمنع والحجب، دلالةٌ واضحةٌ على وجاهةٍ كثيرة في بعض «دفاعات» تصدّى بها الوزير أمام هجمات كتابٍ مرموقين في بلاده. بلا أوهام لم يكن متوقعاً من الدكتور عبد العزيز خوجة أن يوافق «مراسلون بلا حدود» في انتقاداتها ومؤاخذاتها الحادّة الكثيرة لواقع الحريات الإعلامية في السعودية، وكان طبيعياً أن يُصرّح في برنامج داود الشريان إن ما أوردته المنظمة المذكورة عن بلاده غير صحيح. ورُبما كان في محله قولُه إنه كان على وفد منها أن يلتقي به أو بمسؤولين إعلاميين سعوديين، لشيء من الموضوعية. وإذا كان من نجاحٍ يُذكر لأولى حلقات برنامج داود الشريان «واجه الصحافة»، على شاشة «العربية»، فإنه قد يتعلق أولا بالتعريف بأهليّة وزير سعودي المؤكدة في مواجهة أي سؤال أو انتقاد، ومن أي نوع من أهل مهنة الإعلام من مواطنيه. وتالياً، في ظهور أهل «المواجهة» العرب من أصحاب القلم والمعرفة من دون أوهامهم إياها عن القضايا التي يدافعون عنها، دلّ على ذلك قول جمال خاشقجي وزملاؤه في البرنامج إن الصحافة السعودية تحتاج إلى أن تكون مهنيّة واستقصائية، لتتطور وتكتسب المزيد من الحرية، ما يتطلب تأهيل صحافيين فيها مهنياً لإنجاز مواد صحافية لها قيمتها وجدواها وفاعليتها في المجتمع السعودي. وأغلب الظن أن مثل هذه الصراحة والمكاشفة في مختتم برنامجٍ يقوم أساساً على مواجهة المسؤول، تُضاعف من أسباب الانجذاب إلى هذا البرنامج في حلقاته المقبلة، مع مسؤولين آخرين وضيوف آخرين، في السعودية وغيرها، طالما أن ضربة البداية فيه كانت مثيرة وشائقة. داود الشريان ... وعبد العزيز خوجة