الإنسان بطبعه متسائل شكاك لا يسلم قِيَادَةُ بسهولة، لأي قضية من القضايا، سواء كانت في الحق أم في الباطل. وهو بطيء الوثوق، لا تستقر له القناعات إلا بعد وقت من المراجعات والأخذ والرد والثورة والهدوء والتقارب والتباعد، حتى يشعر بالرضا واليقين بما تدور حوله الظنون. ولا تخرق هذه القاعدة إلا في حالات محدودة، إما بأمر استثنائي أو بمقدمات سابقة، أو بطبيعة المتلقي سريع التأثر. ومن رحمة الله بالبشرية، أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عندما جاؤوا بالرسالات، صاحبتهم أنواع من المعجزات والخوارق؛ لتوفر على الباحثين عن الحق مسافات طويلة من الشك والقلق والبحث والتساؤل. هناك خطأ منهجي في نظرتنا إلى الشك، حيث يظنه كثير منا، التكذيب والجحود والكفر والإلحاد. والحقيقة غير ذلك؛ لأن الشك في معناه لا يعني الإنكار، فقاعدته الطبيعية الجهل بالشيء، أو عدم التحقق منه، أو استواء النقيضين بمعنى التوقف والانغلاق. ومن أجمل التعريفات للشك، ما عرّفه الإمام الأصفهاني في «المفردات»، حيث قال: «الشك اعتدال النقيضين عند الإنسان أو تساويهما، وذلك قد يكون لوجود أمارتين متساويتين عنده في النقيضين، أو لعدم الأمارة فهما.. والشك ضرب من الجهل، ويصح أن يكون مستعاراً من الشك، وهو لصوق العضد بالجنب.. فلا مدخل للفهم والرأي ليتخلل ما بينهما، ويشهد لهذا قولهم: التبس الأمر واختلط وأشكل». نحن أمام مصطلح واضح، يجب أن تبنى عليه القضية، وتقاس على أساسه وحدوده. من هنا نجد نظرية الشك مذكورة في الديانات والمذاهب الفكرية، ليس على أنها منبع الإنكار ومبتدأ الحجود، بل على أنها في حالتها الطبيعية طريق إلى البحث، وتنقيب في المتاح، ومنطلق النظر إلى الحقيقة. أما في حالتها غير الطبيعية، فهي بحسب ما وصلت إليه؛ فإن كانت حيرة فهي حيرة، وإن كانت إنكاراً فهي إنكار. وأظن أن من يزعم أن الشك حالة إرادية مخطئ في زعمه؛ لأن الحالة الإرادية لا تعتبر في الحقيقة شكاً، ولا يصح أن نسميها شكاً، ولا يسوَّغ أن يسمى صاحبها شاكاً، كيف وهو يتمظهر بالشك للوصول إلى الحقيقة، وفي داخله إيمان بشيء يرى أنه الحقيقة. والذين يسيرون على هذه الطريقة لا يجيء منهم شيء معتبر؛ لأنهم لم يعيشوا حرقة الفقد للحقيقة، ولم تتقرح أكبادهم عطشاً للحق الذي يبحثون عنه. إن الذين عاشوا مرحلة الشك، وهم في حال من الصدق والتجرد، جاؤوا بما يبهر العالم بعد أن وصلوا لليقين. يتنوع الشك من شخص إلى آخر، وإن كان منطق الشك واحد، وهو التباس واختلاط وانغلاق في الفهم، وضياع التمييز بين النقيضين. ومن أنواع الشك: الشك المنهجي، الشك النفسي، والشك المنطقي. ومن منطق هذا التقسيم، نستطيع إثبات أن المتشككين يختلفون في مقدار طلب الحقيقة والبحث عنها، فليس هناك شاك باحث عن الحق، وليس كل شاك كاره للحقيقة. فالشك المنهجي هو طل بالحقيقة وانطلاق نحو اليقين، وهو رغبة ملحة في المعرفة والخروج من الحيرة بين المتناقضات، فهو جهل وصاحبه باحث عن العلم وطالب للحق والحقيقة. والشك النفسي توقف وضعف وكراهية للخوض في شيء من تكاليف الحقيقة، لأنه حالة نفسية واكتئاب معجز. أما الشك المنطقي، فهو نوع من التبرير والمكابرة والعناد والرفض لأي محاولة تقود إلى خلاف هذا الشك. إذن علينا التعامل مع أي حالة شك، على أساس منطلقها وسببها، فقد يكون الشك من منطلق الجهل والصدق في طلب الحقيقة، فنعتبره شكاً منهجياً صحياً. وقد يكون الشك حالة نفسية تعالج بما يناسبها، وقد يكون الشك قضية منطقية وتبريرية، وهو أبعد أنواع الشك عن الحق؛ لأنه بعد الاستغلاق وافق هوى في النفس، فذهب صاحبه إلى الجدل. ونرى في كتاب الله عز وجل حديثاً عن هذا الشك في عدد من السور، وأشكال من البحث والتساؤل. في قصة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، عندما رأي كوكباً فقال هذا ربي ثم كره أفوله، فلما رأى القمر قال هذا ربي فأفل، ثم رأي الشمس فقال هي أكبر (من سورة الأنعام). في هذه القصة، إثبات لمبدأ الشك المنهجي والبحث عن اليقين، ولذلك سبقت هذه القصة آية ذكرت اليقين، فقال سبحانه: «وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين». وهذه الآية دلالة على أن إبراهيم عليه السلام، لم يكن في حالة إرادية، كما يظن من فسر الآيات بهذا التفسير، بل كان في حالة بحث عن الله والتعرف إليه، ولم يكن عليه السلام شاكاً منكراً، بل كان شاكاً بمعنى استغلاق الفهم واستشكال الحقيقة الإلهية عليه، وهو التعريف الذي مرّ معنا عن الأصفهاني. وأراد الله عز وجل أن يضعه في حالة من الشك بمعنى الجهل، ليكون من الموقنين العالمين، وهي بنفس المعنى الذي ورد في سورة الضحى، بشأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال الله له: «ووجدك ضالاً فهدى»، أي باحثاً عن الحق ليس لديك علم بي فهديتك إليَّ. ويفسره المعنى الآخر في قوله تعالى: «وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت ما تدري ما الكتاب ولا الإيمان». ولما طلب سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام من الله سبحانه أن يريه كيف يحيي الموتى، قال الله له: «أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي»، فهل معنى هذا الطلب ومعنى البحث عن الاطمئنان، هو نوع من الشك الجحودي الإنكاري؟ إن كلمة إبراهيم عليه السلام في قوله «ليطمئن قلبي»؛ ما يحوي بأنه بحث عن اليقين في أعلى درجاته. ولم يعاتب الله عز وجل إبراهيم، ولم يتهمه في إيمانه، بل علم صدق إبراهيم في طلب الوصول إلى أعلى مراتب المشاهدة لأفعاله سبحانه، برغم أنه نبي رسول لا يحتاج إلى ذلك. وفي سورة البقرة قصة صاحب الحمار، الذي مرّ على قرية فسأل نفسه كيف يحيي الله هذه القرية بعد موتها، فأماته الله مائة عام ثم أحياه، ليصل إلى اليقين. إنه تساؤل وشك استغلق معه الفهم، واستوى عنده النقيضان، فلم يعد يدري أيستطيع الله أن يحييها أو لا يستطيع، وهذا ليس كفراً بل هو جهل أراد صاحبه أن يخرج منه إلى اليقين. والحواريون المؤمنون بعيسى عليه السلام يسألونه: «هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنت مؤمنين. قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين». والأمر واضح في أن الحواريين شكوا في استطاعة الله أن ينزل عليهم مائدة، ثم الأمر أكثر وضوحاً في البحث عن اليقين في قولهم: «وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين». ولم يحكم الله بكفر هؤلاء، ولا بكفر صاحب القرية، ولا عاتب إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وفي حالة الشك النفسي، ما ذكره الله عز وجل عن بعض الصحابة في غزوة الأحزاب، بعد أن بلغ الكرب مبلغه، حيث قال عنهم: «وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا»، فهي حالة نفسية يعذر صاحبها، ثم تذهب بذهاب السبب أو بعلاج المرض. أما في حالة الشك المنطقي الفكري، فالقرآن مليء بالحديث عن الشك المصاحب للهوى، ذلك الشك المتلبس بالجدل والخصام والمكابرة، وهو أسوأ أنواع الشك فهو منطقي وفكري، وله اتصال بالنفس والهوى، وفيه امتزاج خطير بين العقل والنفس، وأبرز الذين اشتهر عنهم هذا النوع من الشك هم بنو إسرائيل، وكذلك المشركون المعاندون المجادلون. إننا نخطئ خطأً فادحاً حين نضع كل الشكاكين في سلة واحدة، ونعامل الجميع بغير ما عاملهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من التعليم والحجة والعلاج لنفوسهم وعقولهم.