الاختلاف سنة، أوجده الله لحكمة منه جل وعلا، ليستمر الصراع بين الحق والباطل، ليميز أهل الحق، الذين ينافحون دوماً عن مبادئهم ومعتقداتهم بالحجة والبرهان، هدفهم إنقاذ البشرية وتحقيق الهدى والاستقرار، لكن مع هذا كله، يصر فئام من الناس على التمسك بالضلال، وسلوك سبل الغواية والانحراف، رافضين منهج الحق، ساعين وراء كل ما هو مخالف للفطر السليمة والعقول المستنيرة، قال تعالى في سورة هود «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ». فلو شاء الله جعل الناس كلهم على الدين الإسلامي، ولكن اقتضت حكمته، أن يجعل فيهم المخالفين للصراط المستقيم، فإذا كان الاختلاف سنة ربانية، كان الحوار وقرع الحجة بالحجة لزاماً على أهل الحق وأرباب الهدى، بياناً للحقيقة وإقامة للحجة وسعياً لإنقاذ البشرية، وهدايتها لمنهج الله القويم، بالعلم والحكمة، وحسن المنطق وقوة البرهان مع الحرص على هداية المتلقي، قال تعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن». ولعل المتأمل لكثير من أساليب الحوار والسجال الفكري القائم اليوم في معظم وسائل الإعلام، يلحظ -للأسف الشديد- أن القليل منها يقوم على المعرفة والحقائق العملية والنقاش القائم على الأدلة والبراهين النقلية والعقلية، بل إن غالبها تقوم على آراء شخصية، وفلسفات فردية، وأهواء مقيتة، قادت إليها إفرازات الحياة المادية، التي تسعى لإسعاد الفرد جسدياً وتسخير كل ما في الكون لإرضاء جسده وإشباع متعه المادية الدنيوية، دون اعتبار لإشباع رغباته الروحية والفكرية بسلوك الطريق القويم. إن من سمات الحوار العقيم اليوم، ظاهرة شخصنة الحوار، وهي انتقاص أحد أطراف الحوار للآخر، في جانب أو أكثر من شخصيته، كلونه أو جنسه أو أصله أو شكله، وما إلى ذلك، مما هو ليس من نقاط البحث أو محاور النقاش، في جو سلبي حاقد، مليء بالحسد وسوء الظن والكبر عن قبول الحق، فما بال كثير من كتّاب اليوم يملؤون صحفنا المحلية والعالمية بمقالات مريضة مشبوهة، تفتقد المعرفة والحجة، وتمتلئ بانتقاص المخالفين، وتكيل الشتائم والاتهامات لهم، فهذا عميل وذاك وضيع النسب، وفلان أسود، وهذا مرتزق، في حملة شعواء، هدفها تضليل الحق، في ظل غياب الحجة والبرهان، فعندما يغيب العلم والعقل، ينطلق الجهل والهوى. كان الأولى بمن هذا ديدنه، أن يمنح عقله وضميره فترة يقظة، وزمن صحوة، للنظر لحقيقة ما يطرحه، وأن يتأمل ما يتلقاه، فقد يكون الحق مع خصمه، فيمنعه إعجابه بنفسه وكبره من قبول الحق فيهلك، فالمتكبر لا يدخل الجنة. وبيّن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم عن حقيقة الكبر قفال: «الكبر بطر الحق وغمط الناس» فما أضل الناس مثل اتباع أهوائهم والسعي وراء الانتصار للنفس على حساب الحق والهدى قال تعالى: «فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» سورة القصص. ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ينتقد أقوالاً وأفعالاً بذاتها دون أن يخبرنا بمن قام بها ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أن النبي صلى الله عليه وسلم صنع شيئا فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فخطب فحمد الله ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن شيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم خشية». إن تقديس الناس لجاههم وأنسابهم ومالهم فحسب، لهي تصرفات خرقاء هوجاء منهزمة فوضوية، لا يقوم لها قوام ولا يستقر لأهلها قرار بين الأمم. وهاهو الغرب، عندما أدرك أن قيمة الإنسان بما ينجزه بإمكاناته وقدراته سخر لذلك أعظم الإمكانات، واستغل في سبيل ذلك كل الطاقات، حتى وصل إلى قمة الحضارة المادية اليوم، أما نحن، فما يزال البعض منا يناقش بطولات أقوامه التاريخية، وصراعاتهم القبلية، ويسرد في ذلك القصائد الطوال، بينما أمته اليوم تعيش أنواع الهوان والذل، من قِبَل أعدائها في كل مكان! علينا أن نستفيد من ماضينا، كتجارب صادقة، نستقي منها الدروس والعبر، وننطلق بتفاؤل وطموح، في حاضر واعد ومستقبل مشرق، لا أن نجعل من أنفسنا حكاماً على البشرية، ننتقص هذا ونهمش ذاك، وكأننا اعتلينا قمم الحضارة، فحريٌ بكل إنسان أراد الرفعة لنفسه وأمته، أن يشغل نفسه بما يعود عليها بالنفع في الدنيا والآخرة.