.. قيل ان الشك هو الطريق المؤدي الى الايمان، لكن ليس هنالك اجماع على ان تلك الطريق تقود الى اليقين ابداً. ولا شك مهما كان مصدره علميا او فلسفيا او دينيا، لا تتولد عنه نتيجة ايجابية محتمة . اي ان حصيلة الشك ربما كانت سلبا بالانكار والرفض. من هنا تبدو فكرة الشك ذات وجهين: فهناك من يشك ساعيا في طلب اليقين، وهناك من يشك لأجل الشك فحسب. ولعل أبا الانبياء ابراهيم الخليل عليه السلام هو اول من شرع طريق الشك الايجابي حينا سرح ببصره في السماء فساوره الشك في الوهية القمر ثم أنكر الوهية الشمس ووصل اخيرا الى عبادة الله الواحد الاحد . لقد كان شكه نابعا من الفطرة السليمة التي تبحث عن الحقيقة الصافية، الخاصة. ولأن بقايا من الشك كانت تمور في ذهنه فقد سأل ربه أن يريه اليقين، فكان ان رأي قدره الله في خلق الطير، وبذلك زالت رواسب الشك الاخيرة. وعباقرة الشعراء هم شكاكون كبار . والعبقرية كما قيل قرينة الطرسة فاذا اجتمع الشك مع الغطرسة فانها لابد ان تثمر انكارا لما هو سائد من فكر او معتقد. وكان طرفة بن العبد - الشاعر الجاهلي المعروف - عبقريا في فنه وهو من رؤوس أهل الشك في عصره، بل كان هو مثالا نادرا لذلك الزمن الذي اضطربت فيه العقول والقلوب الباحثة عن اليقين المؤجل. وشك ابن العبد يتمثل في بيت صريح واضح في المعلقة المشهورة. فان كنت لاتستطيع دفع منيتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي فصاحب هذا البيت - كما يبدو - انما هو رجل ساع الى الخلود، وهو امر محال فات جلجامش قبل ذلك ولم ينله السابقون ولن يفلح فيه اللاحقون. اما ديكارت الفيلسوف الفرنسي الشهير فقد اعاد جانب الشك الايجابي بأجلى صوره . لقد طلع ديكارت في زمن خواء الكنسية واول بوادر نشوء العلمانية الاوروبية فكان ان اندفع لسلوك طريق الشك الفلسفي المؤدي الى الايمان بالخلق وكان له ما اراد. وقد اقتبس طه حسين هذا الشك الديكارتي، ولكنه نهج به منهجا آخر انتهى به الى انكار شعرنا الجاهلي الخالد الذي ان صح كذبه - بزعم طه حسين - فهو يبقى اكثر صدقا من شعر كثير من المدعين. لقد وجدت الانسانية في الشك أداة لتبرير كل جديد لديها فالعلم يشك في النظرية القديمة ليبدع نظرية جديدة، والمؤرخ يشك في رواية ما ليكتب بحثا مغايرا، والفيلسوف يشك في افكار من سبقوه ليستنبط الحقيقة او ما يقاربها. لكن طريق الشك تتسع لأصحاب العلم ومن لا علم لهم حتى تصبح الشكوك زاد الجاهل ويقينه، فهو ينطلق منه ليصل اليه. وهذا الشك القبلي والبعدي انما هو حصيلة الفكر المسبق والقناعات الجاهزة التي تتغلف بستار الموضوعية العملية النزيهة. لذلك رأينا اصحاب العلوم الانسانية اكثر الناس شغفا بمنهج الشك، رافعين شماعة " الموضوعية المجردة" في حين لا يتورع البعض منهم عن الطعن في الخصم ولو كان صادقا نزيها بينما يسبغ صفة التقديس على الكاذب لأنه صديق صدوق؟ حين يصبح الشك اداة بيد الجاهل فإنه يغدو مجرد معول للهدم لا وسيلة للبناء. اما الشعارات التي يرفعها اصحاب الهدم فانها غالبا ما راقت لأنصاف المبصرين الناعقين مع كل ناعق وهم الكثرة الكاثرة في كل زمان ومكان.