(الخيرُ في الناسِ مصنوعٌ إذا جُبروا/ والشرُّ في الناسِ لا يفنى وإِن قُبروا/ وأكثرُ الناسِ آلاتٌ تحركها أصابعُ الدهر يوماً ثم تنكسرُ) للحروب ضحايا، وهذا أمر طبيعي، غير أننا اليوم أمام حرب من نوع آخر، وجيوش تعمل في الخفاء، لتدمر ما لم تستطع الآلة العسكرية تدميره، ألا وهي جيوش «الفساد» الذي دمر كل شيء، بدءا بالأخلاق، والمجتمع، وانتهاءً باقتصاد الدول ومؤسساتها. فالأمراض الإدارية التي نخرت في عظم الأجهزة الإدارية الحكومية، جعلتها هزيلة وضعيفة، الأمر الذي جعل منها أرضاً خصبة للفساد الإداري، وبالتالي ظهرت مجموعة من السلوكيات التي يقوم بها بعض من يتولون المناصب العامة. وبالرغم من التشابه أحياناً، والتداخل فيما بينها، وإعادة صياغة مفرداتها، وتسميتها بأسماء جميلة، إلا أنه يمكن إجمالها في الرشوة، المحسوبية، المحاباة، الواسطة، نهب المال العام، وأخيرا الابتزاز. ولعل الصراع الثقافي بين القديم والحديث، وبين الجمود والتطور، ألقى بظلاله على الشركات والمؤسسات والأفراد، لاسيما في المؤسسات الحكومية التي تعاني بعضها من الترهل الإداري، والنمطية في التفكير، والخوف من التجديد والابتكار، وهو ما يطلق عليه مصطلح «الروتين» وهو بلا شك، من الآفات التي أصابت مؤسساتنا الحكومية، وعطلتها عن مسيرة النهوض والتقدم، وروح العصر، فهناك جيل جديد راغب في كسر الجمود داخل المؤسسات بأفكار جديدة وروح تطوير وتطور جديدة ملائمة للعصر الحالي. ولعل الرتابة والتقليدية، جعلتا من الفساد الإداري مخرجاً لهما، للخروج من وحل الأمراض الإدارية إلى مستنقع الفساد الإداري، والفرق بين المرض الإداري والفساد الإداري بسيط جداً، فالمرض الإداري يعد تخلفا علميا وإداريا، بينما الفساد الإداري يعد جريمة. فمثلا: الواسطة، إذا استخدمت للحصول على خدمة مشروعة، فهي دليل على وجود مرض إداري. أما إذا استخدمت للحصول على منفعة غير مشروعة، فهذا دليل على وجود فساد إداري ومالي! إن عدم متابعة المفسدين من قبل الجهات المختصة، أو فضحهم أمام الرأي العام، أو تسليمهم إلى القضاء لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحقهم. وكذلك عدم وجود الشخص المناسب في المكان المناسب، هو نتيجة من نتائج الفساد، الذي يقوم بحماية المفسدين في أجهزة الدولة، وفقاً لمبدأ (اسكت عني وأسكت عنك)! وبالرغم من كون المسؤولية لا تقع على عاتق جهة واحدة، إلا أن أغلب أبناء هذا البلد يتطلعون إلى الجهد الحكومي، وبالأخص هيئة مكافحة الفساد، وما يمكن أن تلعبه في هذه الأيام من دور إيجابي في هذا الملف. فأينما تجد المستهلك ضعيفا، ولا قيمة لصوته، تجد الحكومة الضعيفة غير القادرة على حمايته. وذلك يعود إلى أن الحكومة لا تستطيع حماية مواطنيها من الفساد المنتشر، سواء كان تجاريا أو إداريا، وذلك لقوة الفساد والمفسدين، بل تجدها في بعض الأحيان حامية للمفسدين. ففي الدول المتقدمة اقتصادياً، تجد أنّ المستهلك والمواطن، رقيب وله صوت قوي، وله عين على كل مشروع، فإن اشتكى سمع له، وإن أثبت وجود فساد، عوقب وغرم المسؤول، سواء كان تاجراً أو مسؤول دولة. وبالتالي فنحن على أبواب حرب حقيقية، بحاجة إلى الكثير من الشجاعة والجرأة، لمجابهة الجناة، وأن يضع القائمون عليها نصب أعينهم تجنيب الأبرياء العواقب التي تفرزها نتائج هذه الحرب. لأن التجارب السابقة أثبتت، وفي كل مرة، أنّ «الجاني» يحصن نفسه من المساءلة، ويهيئ من يتحمل العقاب بدلاً عنه! أو يضع لنفسه ضحايا يتحملون مسؤولية أفعاله، كأن يستخدم جهل الموظفين الصغار لتمرير أفعاله، أو يستخدم تراكم الخبرة لديه في هذا المجال! وبالتالي فلابد لنا من أن نرى عددا من المفسدين -سُرّاق المال العام- وفي كل المدن والمؤسسات الحكومية والخاصة، يعرضون على شاشات التلفاز، أمام الملأ، كغيرهم من الإرهابيين، الذين تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء، ولابد من كشف جميع الملفات، بغض النظر عن هوية المفسد، أو انتمائه، حتى يكون عبرة لغيره، وهو أمر ليس بالمستحيل، إذا كانت النوايا صادقة في حسم هذا الملف الخطير أو الحد من هذا الوباء. والفساد الذي يدمر البلد ليس هو الفساد المتعارف عليه في مجتمعاتنا الشرقية فقط، بل الفساد هو الخيانة بكل معانيها. و(الفساد) نتاج لجملة من العوامل والظروف التي ساهمت في استفحاله وإخراجه من كونه حالة، في بعض دوائر الدولة، إلى أن أصبح وباءً، ومرضاً معدياً، ينتشر وبسرعة كبيرة، ليصبح ظاهرة طبيعية، تلف كثيراً من دوائر وأجهزة الدولة ومؤسساتها.