من المعروف أن الفساد ارتبط بالدول النامية نتيجة وجود الفجوات الإصلاحية، وهو بالتأكيد من أهم الأسباب التي تؤجل وتعرقل حركة التنمية الاقتصادية والسياسية وبالتالي مكوث الدول النامية في مراتبها المتأخرة، لأنها عاجزة عن اللحاق بالدول المتطورة التي تمارس الشفافية في تعاملاتها ومحاسباتها مع المفسدين. الفساد مثل السرطان الخبيث الذي ما أن يُكتشف في الجسد وتبدأ معه محاولات العلاج البائسة التي لا تنفع مع انتشاره كل الأدوية، ومعه تزداد صعوبة الحياة مدمراً بقية الجسد؛ لذا تتحول الخطة من علاج شافٍ إلى تأخير الموت البطيء! هذا الفساد سواء كان إداريا أو ماليا لا ينتشر بهذه الطريقة إلا وخلفه سلطة خفية تدعمه وتحميه.. فتعريف منظمة الشفافية العالمية للفساد هو «إساءة استخدام السلطة العامة لتحقيق كسب خاص» أما تعريف صندوق النقد الدولي (IMF) فهو «علاقة الأيدي الطويلة المعتمدة التي تهدف إلى استحصال الفوائد من هذا السلوك لشخص واحد أو مجموعة ذات علاقة بين الأفراد». قبل بضعة أسابيع تم عرض نتائج دراسة خطيرة ومرعبة بالأرقام خلال منتدى الرياض الاقتصادي علي الحضور التي كشفت أن %68 من المستثمرين اضطروا لاتباع الأساليب غير النظامية لتسهيل أعمالهم (الرشوة، والواسطة، والتحايل) وأن %56 من المستثمرين المحليين يرون أن القضاء التجاري ضعيف ويشكل عائقاً استثمارياً.. وفيما يخص المدن الاقتصادية، أشارت الدراسة إلى أنه على رغم مرور خمس سنوات لاتزال نسب التنفيذ متواضعة، ولم تتجاوز في معظم المشروعات والمناطق الصناعية والخدمية والتجارية والسكنية في هذه المدن مرحلة التصميم والتنسيق مع الجهات المعنية، وطالبت هيئة المدن الاقتصادية بإعداد ونشر خطط مرحلية وبرامج تنفيذ سنوية واقعية وبالتنسيق مع الشركات المطورة لتلك المدن والمستثمرين فيها، ونشر نتائج التنفيذ بشفافية تمكن من تدعيم الثقة بهذه المناطق، وعدم طرح شركات تطوير المدن الاقتصادية للاكتتاب العام إلا بعد مرور عدد من السنوات على تطويرها. نتائج هذه الدراسة يجب ألا تمر مرور الكرام أمام المسؤول والمواطن الذي يتأمل كثيراً في دوران عجلة التنمية الاقتصادية لا تنمية الفساد.. لغة الأرقام والواقع تؤكد أن الفساد قد نخر بعض المؤسسات الحكومية ووصل العظم! حتى وإن فندت هيئة الاستثمار نتائج الدراسة بحجة أن عينة الدراسة صغيرة ولا تمثل %1 من أصل المستثمرين وعددهم 425 من أصحاب الشركات والمؤسسات من أصل حوالي تسعمائة ألف؛ إلا أن تصريح أكثر من نصف العينة الصغيرة علانية وفي دراسة علمية أنهم يدفعون الرشاوى ويستخدمون الواسطة والتحايل من أجل تمرير مصالحهم فهذا يعطي دلالة أن الفساد يُمارس بسلام ودون أي عقاب. هذه الإشكالية تحيلنا إلى كارثة حقيقية وهي ثنائية شفافية الفساد وفساد الشفافية.. عندما تغيب العقوبة والمساءلة، وشفافية التعامل مع قضايا الفساد فهذا يعني تلميحاً وغطاء بتمرير الفساد بطرق غير مشروعة.. أين صرامة ووعيد هيئة مكافحة الفساد من هذه الدراسات؟ وأين عيون هيئة الرقابة والتحقيق الحمراء من هذه النتائج؟ ولماذا تقف المباحث الإدارية مكتوفة الأيدي من هذه الممارسات؟ ولماذا غابت الجهات المختصة عن متابعة المدن الاقتصادية؟ أيعقل أن الملك وضع حجر الأساس لمدينة الأمير عبدالعزيز بن مساعد الاقتصادية في حائل قبل أكثر من خمس سنوات وحسب موقع هيئة الاستثمار فإن التنفيذ بدأ في سبتمبر 2007م وإلى هذه اللحظة لاتزال الضبان وبقية مخلوقات الحياة الفطرية تمارس نشاطاتها الاقتصادية؟! في نظري أن مشكلة الفساد هو أقنعة بعض المسؤولين الذين يقفون موقف داعم ومؤيد في الخفاء ورافض ونابذ في العلن.. لأن المصلحة الشخصية تتقاطع مع المصلحة العامة وأحياناً تضعف النفس غير المؤتمنة أمام المليارات.. نحن نعاني من ازدواجية وانفصام في شخصية هؤلاء.. أمر محبط أن يتم تدوير وجه الفاسد في مختلف وأرقى الأماكن لأنه متأكد أنه سوف يعود والمناصب كلها مشتاقة له! كارثة وطنية عندما يكون حال الفساد السرطاني منتشراً لدرجة أنك ما أن ترفع حجرة أو تفتح ملفاً علاقياً أخضر إلا وتجد رائحة الفساد منتشرة! الفساد بحاجة إلى وقفة وطنية صارمة ضد من يعبثون بخيرات هذه البلاد ويُحسب للملك عبدالله رائد الإصلاح والتنوير إنشاء هيئة مكافحة الفساد كبذرة تسعى للنمو والازدهار حتى تحمي بظلال أوراقها مصالح الوطن الغالي. الصرامة والتشهير ومحاكمة المفسدين مطلب وطني مُلح ولا تهاون أو تخاذل في التعاطي معه.