ذهبت في مقالة الأحد الماضي إلى أن مكاسب حياتي في القرية منذ شهر ونصف الشهر تتجاوز، وبكثير، ما خسرته جراء غيابي عن الفعاليات الثقافية في الرياض. فالعلاقات الحميمة مع الطبيعة والبشر مكسب لا يقارن بغيره، خاصة في مدننا التي تعرف سيئات كل حواضر العالم الكبرى، لكن ليس فيها شيء يذكر من محاسنها (متاحف، مسارح، قاعات سينما، ساحات حرة مفتوحة على كل فنون الحياة... إلخ). ولقد تيقنت من وجاهة ما ذهبت إليه حين هاتفني بعض الأصدقاء، ومن غير جهة، ليؤكدوا صواب ما قلت. بل إن أحدهم ذكرني بما فعله كتاب معتبرون قرروا في لحظة ما العودة إلى الريف لا من باب النزعة الرومانسية التي ولى زمنها وإنما بحثا عن هدوء البال وانطلاق الخيال. طبعا، لا أحد يجهل أن ريف الجنوب لم يعد ريف الذاكرة الخضراء، ولن ينافس ريف ميخائيل نعيمة اللبناني أو رينيه شار الفرنسي على شيء. لكن جبال السراة لا تزال الفضاء الوحيد الذي يمكنك أن تسير في أي من طرقاته فتسلم على مئات الأشجار الواقفة، وتشم أريج عشرات النباتات العطرية، وترى أو تسمع الكثير من الكائنات الحية ترقص وتغني للعابرين مثلي. وفي كل الأحوال لم يكن في نيتي العودة إلى الموضوع لولا أنني شعرت بقلق وعي وتأنيب ضمير حفزاني إلى الكتابة في عتمة هذا المساء الأنيق. لقد تحدثت عن جمال العلاقات مع أقرباء وأصدقاء يجسدون، قولا وفعلا، أجمل وأنبل معاني الحياة، إذ تكون سلسلة متصلة من لحظات الألفة والمودة والأريحية. لكنني لم أشر من قريب أو من بعيد إلى نساء تستحق الواحدة منهن حكاية ممتدة لا مقالة عابرة. ولا أبالغ، وإن فعلت فانعم بالمبالغة في هذا المقام. عمتي (زوجة أبي الثانية التي هي في مقام أمي) خزانة حكايات تدور في معظمها حول الماضي، حديقة كل من طعن في الوقت. أفتح لها باب الكلام عن الطفولة المنسية فتمطر حتى تشعرني بأن ما ورد من أخبارها في «رقص» ليس أكثر من نتف قصيرة طفت على السطح جفافا أو زبدا. إحدى قريباتي من جهتي الأم والأب لا أشاركها ري مزرعتها الصغيرة حتى تتدفق الحكايات والقصائد الشعبية على لسانها حتى لكأن الشجيرات الفتية تعيرها أبهى أرواحها الغضة. لم أنجح بعد في دفعها إلى الغناء، ولن ألح كي لا أرهقها بصبواتي وهي في الثمانين من عمرها. لكنني سأظل أراقب جارتي العظيمة هذه كي لا تستفرد بها الشمس أو تستفرد هي بصوت الماء وهو ينصب منشيا في أحواض المشمش والخوخ والرمان والبرتقال والليمون والعنب. بنات أخي وزوجة ابنه وزوجات الأصدقاء يبدعن أيما إبداع في تحضير وجبات شهية، شعبية وحديثة، تجعلني أنسى أرقى مطاعم العالم. وأنساها لأنني واثق تمام الثقة أن الإبداع طبع أصيل فيهن، لكن المؤكد أن المنسوب يعلو كلما جاء هذا الغريب – القريب الذي يقال إن في ذوقه أثرا قويا للحياة الباريسية! ودليلي أنني تذوقت هنا كنافة شامية ومنتو شرق آسيوي وخبز حنطة محلية محشو باللحم الطازج والخضروات غير الملوثة، تحسرت ألا تكون هذه وجبة عالمية أغنى تكوينا وأشهى طعما من البيتزا الإيطالية. ولأنني لا أشرب القهوة والشاي مساء فقد تمتعت باليانسون والقشر والشعير الممزوج بالزنجبيل والهيل والقرنفل. وبعد ألا يليق بي أن أعتذر لربات البيوت هؤلاء اللواتي يعملن ويبدعن الحياة من وراء الحجب؟ وأعتذر، تحديدا، عن ذلك الصمت الذي أملته علي ذاكرة ذكورية اختزالية فجة طالما حذرت الآخرين من مكرها!