تحولت عملية التحريض على الكراهية في وسائل الإعلام المختلفة إلى صناعة رائجة تدر كثيراً من المال على العاملين فيها في وقت يشتد فيه وطيس الحروب الإقليمية وصعود الشعبويين في كثير من عواصم العالم خصوصاً في أمريكا اللاتينية وأوروبا والولايات المتحدةالأمريكية. في عصر الطفرات والتطور التقني، لا يحتاج المحرضون على الكراهية إلى كثير من الوسائل لكي يقوموا بالمهمات القذرة. يكفي جهاز هاتف ذكي للقيام بكل ما يوكل لهؤلاء من قبل مشغليهم أصحاب الأجندات التأزيمية المدمرة، بعد أن تحول الهاتف الذكي وتطبيقاته المتعددة إلى مكتب متنقل يمكنه القيام بما كان يقوم به مكتب يحوي عديداً من الغرف والحواسيب الآلية والموظفين. قد لا يدرك من يقوم بمهمة التحريض على كره الآخر أن هذه «المهنة» لن تقتصر على من يستهدفهم من أجل تسقيطهم أو إسالة دمائهم أو حتى إفنائهم من الوجود، بل إن الكراهية تنتشر كالنار في الهشيم لتصل إلى المُشغل والمشتغل في هذه العملية غير الأخلاقية. فهي وباء قاتل لا تفيد فيه الحقن المؤقتة التي يمنحها المشغلون لموظفيهم بعد أن يتمكن الحقد من صاحبه ليحوله إلى قنبلة موقوتة تنفجر فيه وفي من حوله لتطول المجتمع برمته الذي تتكون فيه اصطفافات وتجاذبات كبيرة تخرج عن سيطرة مطلق حملة الكراهية والحقد لتبدأ دعوات استخدام العنف ضد الآخر المختلف في ظل غياب الحوارات الحضارية الهادفة التي من شأن الشروع فيها قطع الطريق على من يبحث عن ثغرات مجتمعية للنيل من وحدة النسيج المجتمعي. ربما يكون سطوة الرأي الواحد وغياب تعدد الآراء في وسائل الإعلام هو أحد الأسباب التي تشكل أراضي خصبة لخطاب الحقد. وقد حذرت الأممالمتحدة ومنظماتها الفرعية من مغبة السيطرة واحتكار وسائل الإعلام وإشاعة الرأي الأوحد، باعتبار أن هذا السلوك يُشعر الرأي الآخر بالتهميش والمظلومية التي يتخلق معها شعور بردة الفعل التي قد تكون غير محسوبة. ولذلك شددت الاتفاقيات الدولية على ضرورة الالتزام الوارد في المادة (19) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي يضمن حرية التعبير وحرية الإعلام وعدم احتكاره، كما تحدد المادة نفسها القيود المرتبطة بهذا الحق، ومنها «احترام حقوق الآخرين واحترام سمعتهم»، بينما تؤكد الفقرة الثانية من المادة (20) من نفس العهد على أن «تحظر أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف». وتطلب الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان من الدول أن تعلن «أن الدعوة إلى الكراهية لأسباب وطنية أو عرقية أو دينية هي جريمة جنائية»، بينما تفرض اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، حظراً أوسع نطاقاً، إذ تشدد المادة (4) من الاتفاقية على ضرورة أن تلتزم جميع الدول التي هي طرف في المعاهدة بالإعلان عن جريمة جنائية «كل نشر للأفكار القائمة على التفوق العنصري أو الكراهية العنصرية، والتحريض على التمييز العنصري.. وتوفير كل مساعدة للنشاطات العنصرية (..) والمشاركة في المنظمات، وتنظيم جميع الأنشطة الدعائية الأخرى، التي تشجع وتحرض على التمييز العنصري». هذه النصوص وجدت تطبيقات لها في عديد من الدول التي واجهت التحريض على الكراهية والعنصرية وارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وكانت محاكمات النازيين بعد الحرب العالمية الثانية أكثر النماذج الواضحة، وكذلك ما حدث في رواندا بين العام 1990 و1993 في الحرب الأهلية التي اتهم أعضاء في الحكومة بارتكاب جرائم التحريض على الإبادة الجماعية، حيث جرم مجموعة من المسؤولين الإعلاميين ووزير الإعلام في تلك الدولة بتهم التحريض على الإبادة الجماعية. لكن ما تتعرض له بعض المجتمعات العربية من حملات كبرى في التحريض على الحقد وكراهية الآخر، لا تزال بعيدة عن المساءلة القانونية، حيث تعاني أغلب هذه المجتمعات من ضعف التشريعات المجرِّمة لارتكاب مثل هذه الجرائم، أو أن القائمين على تطبيق القانون لا يلتفتون إلى مثل هذه الأعمال الشنيعة، إما بسبب قلة خبرتهم أو بسبب الفساد والفوضى وعدم الانضباط والمحاباة التي تتسم بها أغلب هذه المجتمعات، الأمر الذي أدى إلى تفشي ظاهر خطاب الكراهية وتأصله في وسائل الإعلام، فبدأت بعض المعاهد والمراكز المتخصصة والجامعات في تسليط الضوء على خطورة ما يجري على المجتمع وإمكانية انجرافه إلى دائرة العنف والإرهاب، وإعادة إنتاج الأزمات الدموية التي تعاني منها أربع دول عربية على الأقل هي سوريا واليمن والعراق وليبيا، حيث تنتشر عمليات القتل على الهوية وحيث تواجه تلك المجتمعات معطيات خطيرة تؤشر إلى تقسيم الدول على أسس طائفية ومذهبية وعرقية وإثنية ومناطقية، لتتحول إلى دول فاشلة غير قادرة على إنجاز الحد الأدنى من التنمية المستدامة واستحالة تحقيق السلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي في بلدان ينقسم فيها المجتمع على نفسه. إن المآسي التي تعاني منها بعض المجتمعات العربية بحاجة لعمليات جراحية وتشريعات واضحة في تجريم التحريض على الكراهية وبث الفرقة في المجتمع، خصوصاً في وسائل الإعلام التي تحولت إلى معول يستخدمه أعداء الأمة في هدم كل شيء جميل في بلداننا، وأن تكون هناك عملية تطبيق حقيقية دون محاباة فئة على حساب فئة أخرى أو مكون على حساب مكون مجتمعي آخر.