لا يوجد تعريف جامع مانع للتراث والثقافة، فهما مفردتان تحملان معاني كبيرة ذات دلالات مرتبطة بالأصالة، ولهما سلطتان قويتان، توجِّه أفراد المجتمع إلى الامتثال لمجموعة من القيم والمثل والأفكار والسلوكيات والعقائد والأعراف التي يعتنقها المجتمع ويؤمن بها. فالتراث الإنساني له جذور تختلف في العمق بين أمة وأخرى، فلكل أمة حضارتها التي تواكب مكانتها بين الأمم، ولها تراثها المحلي المستمد من العادات والتقاليد التي تنتقل بين الأجيال، بالإضافة إلى زخم الحكايات والخرافات والأساطير، والحكم والأمثال، ولكل هذه المصطلحات دلالات تراثية تحتاج إلى صفحات لنفرِّغ فيها جميع أشكال الموروث المخزون في الذاكرة الجمعية، وفي مجملها تشكِّل مجموعة من السلوكيات تصب في ثقافة المجتمع. والثقافة الشعبية لها أشكال مختلفة، تنقسم إلى طبقات متباينة، تشكِّل هوية المجتمع، وهي في كل الأحوال تتصادم مع الثقافة النخبوية، أو المعاصرة المنفتحة على الآخر، لأن الثقافة الشعبية تعتمد على الممارسات اليومية للمجتمع المحلي بصورة تلقائية غير متكلفة مثل الفنون المختلفة والأهازيج، والأكلات، والألبسة، ووسائل التسلية والترفيه، ورياضة الألعاب الشعبية مع فوارق بسيطة بين مكان وآخر. ويبرز سؤال مهم: لماذا تظهر بعض الشعوب متمدنة أكثر من غيرها؟ وللإجابة عنه لابد من البحث والتنقيب للوصول إلى أسباب هذا التباين في ثقافة المجتمعات البشرية، ولأن الثقافة بشكل عام تهدف إلى تنمية الفكر والارتقاء بالروح الإنسانية، والبحث عن مكامن الجمال فيها، فإن هذا مدعاة لخلق أنواع من التنافس في سلوكيات المجتمعات والأفراد، أو الصراع بين الطبقات المختلفة للوصول إلى جوهر الثقافة التي تحقق الأهداف الفكرية التنويرية من جهة، وتشكِّل هوية ثقافية جديدة من جهة أخرى، فالثقافة تنمو مع النمو الفكري والسلوك الحضاري للشعوب، والتراكمات الثقافية أهم أركان التطور الحضاري لأي أمة، كما أن للبيئة المكانية أثراً مهماً في تشكيل ثقافة الفرد وبناء شخصيته ليس في طبيعة المكان فحسب، بل وفي جميع المنظومة البيئية المحيطة به، الفكرية والاقتصادية والاجتماعية بما فيها من علاقات وسلوكيات وقيم وأعراف وعادات، يتشرب منها الفرد ثقافته البكر. مع التطور الحضاري للبيئات المختلفة والانفتاح على ثقافات عديدة، تتلقاها الأجيال، تتغير الثقافة المحلية وتتطور لكونها تتمازج مع ثقافات أخرى أفرزتها الاختراعات العصرية، والتقنيات الحديثة، لذا فإن الأمم تسعى إلى المحافظة على تراثها القديم وحمايته من الضياع والاندثار، ومن هذا المنطلق كانت فكرة المهرجان الوطني للتراث والثقافة، الذي يهدف إلى توثيق الموروث الشعبي، ومع مرور الوقت استطاع «الجنادرية» سنوياً أن يكون الحدث الثقافي الأبرز، وهناك دور مهم ننتظره من المؤسسات الثقافية والجامعات، وهو أن تُعنى بالموروث شعره ونثره وحكاياته وأساطيره، وتوثيقه بالتسجيل الصوتي والمرئي والكتابي والأرشفة، وجمع المخطوطات وتحقيقها وطباعتها، لتستفيد الأجيال اللاحقة من التراث الإنساني، والثقافة الشعبية قبل أن تموت، ففيها مادة حيوية تستحق البحث والجهد والعناء والتعب.