كلما توغلت في أعماقك وجدت من الأشياء جوهرها، فالماء في الأعماق أحلى والدر في الأعماق أغلى، وتلك الجذور الضاربة في عمق الأرض هي أساس حياة الأشجار وانطلاقتها نحو عنان السماء، وأجدادنا الذين ورثنا منهم ملامح وجوهنا وألوان عيوننا ومواسم أفراحنا وأحزاننا هم حكاياتنا الغائبة التي بحثنا عنها لنذاكر من تاريخهم ونقارن بين جيناتنا الوراثية التي تتنبأ بأفكارنا وطقوسنا الحياتية وهويتنا المستقبلية. ففي جدولة الأعماق يمكن أن تجد الاختلاف بين سطح البحر وعمقه، كما يمكن أن تتقن المقارنة بين ما يجري في عقلك وبين ما يحاول أن يستوعبه داخلك ومشاعرك، ذلك الذي يحتاج منك أن تعرفه دون أن تنشغل بأبعاد حياة الآخرين ومعطيات حياتهم وعيوبهم وتفاصيل أفكارهم؛ لأن ما يجب أن تعرفه باعتباره منطقة مركزية في حياتك هو «ذاتك» ومن أنت وماذا تحب وفي أي مجال يمكن أن تبدع وكيف يمكن أن تعالج أخطاءك؟ تلك هي منطقة الاكتشاف المثمر الذي يجب أن تتعرف عليه لتستطيع التعبير عن نفسك بطلاقة وثقة وحرية؛ كي تصل إلى حالة التصالح مع ذاتك، وملء المذكرات الفارغة في قراءة الضوء الخافت داخلك، والانزواء بعيدا مع فنجان قهوة صامت أو مع كوب ماء بارد يصلح لاتخاذ قرار اكتشاف الذات وتوجيهها نحو الإبداع الذي تحدَّث عنه الحكماء والفلاسفة، وانطلق من تجاربهم إلى حيز الوجود، وانفلت كمعزوفة منفردة من نوتة الكينونة الإنسانية التي صنعت من المستحيل خبزا للحياة من سيكولوجية الذات حينما تشد الرحال إلى ذلك المكان القريب البعيد للارتقاء إلى فضاءات بعيدة تبدأ من مناجاة الله والخروج من غمرة الانشغال بمجريات الأحداث وتجاذب أطرافها إلى رحابة الروح مع ضرورة أن تقرر نفض الغبار عن المناطق النائية التي غابت عن البال في زحمة الانشغال ويجب أن تظل مهمة ومستمرة مدى الحياة، ويمكن من خلالها الدخول إلى كهوفك البعيدة متدثرا بلحظات الحنين والرغبة في التقصي والاكتشاف بقناعة إرادة التغيير. فمن منا لا يحتاج إلى هذه الرحلة إلى وجود المعلم والضمير الداخلي، والدخول إلى موجات التحاور بكل أشكالها، واستعمال الإلهام للدخول إلى ممارسات فكرية جديدة تؤهل الإدراك والوعي، وتخلق لدينا قناعات جديدة بأن اكتشافنا لأنفسنا يمكن أن يكون الرصاصة الأولى التي يمكن أن تنطلق نحو الإبداع ونحو إثارة الضجيج وخلق عنصر المفاجأة في انتخاب الأفكار وتحويلها إلى سلوك فعلي يعبر فيه الشخص عن ذاته بكل حرية، وهذا ما يجب علينا تربيته في أجيالنا القادمة في تقبل أفكارهم الجديدة وتعبيرهم بطرق مختلفة عن ذواتهم، دون أن نطلب منهم أن يكونوا نسخة طبق الأصل عنا ما يجب أن نؤيدهم فيه، ويمكن أن يصنع فارق أمم بأكملها تحتاج إلى التخلص من عقدة الاستنساخ والموروث الاجتماعي إلى إكمال الطريق برؤى مختلفة تقرأ وتعي الماضي، وتنطلق نحو آفاق الحاضر من خلال الذات الخلاقة. يقول الشاعر جاسم الصحيح: نظرتُ إلى الحياةِ رأيتُ أُمًّا تُرَبِّي الأرضَ رابيةً وسَهْلَا وأبصرتُ الدروبَ دروبَ عُمري متاهًا يشبهُ الأمعاءَ شَكْلَا وعَلَّمَني السقوطُ ببئرِ نفسي بأنَّ الماءَ في الأعماقِ أَحْلَى.