في هذا المقال سأبين لك كيف ينتقل علم نفس الأعماق الذى حدثتك عنه فى مقالات سابقة من التحليل النفسى الى السياسة ! . الانتقال سهل ، لأن الموضوع واحد وهو الإنسان ذو الكينونة النفسية وصاحب الفعل فى عالم السياسة . سأذكرك بمقدمات سبق وأن أشرت اليها : اللاشعور الجمعي أعمق طبقات اللاشعور الفردى – لا يجوز القول بشعور (أو وعي) جمعي ، فالوعي لا يكون إلا فرديا – الظل واحد من مكونات اللاشعور الفردي ، تتجمع فيه كل السمات والملامح السيئة الشريرة فى الشخصية التى لا يرفض الوعي الاعتراف بها كجزء من الشخصية لا دخيلا عليها . لأن الظل مكون لاشعوري ذو دور مهم فى الآليات النفسية افترض كارل يونج مؤسس علم نفس الأعماق أن ذات العوامل التى تؤدي الى تكوينه على المستوى الفردى قابلة لأن تفعل فعلها على المستوى الجماعي ، طالما أن هناك لا شعورًا جمعيًا . عندما طرح يونج هذه الفكرة وقع انشقاق بين أتباع مدرسته ، لأنه اعتبر الظل الجمعي (الخاص بكل الإنسانية) مضاهيا للشيطان الأكبر أو الشر المطلق ، الأمر الذى رفضه بعضهم معتبرينه فرضا غير قابل للفحص ، بينما يمكن ملامسة فكرة الظل الفردي عن طريق تجربة داخلية تقوم على الصدق مع النفس . واقع الأمر يونج لم يطرح ذلك المفهوم كحقيقة (فلا حقائق بشروط العلوم الطبيعية فى علم النفس) إنما كفكرة قابلة للإدراك المنطقى ، قيمة أي فكرة من هذا النوع ليس فى تعبيرها عن حقيقة ما ، إنما فى قدرتها على تفسير الواقع بشكل مقبول عقليا ، وعلى ما تسديه من عون لحركة البحث عن حقيقة لا تدرك مباشرة عن طريق الحواس . هناك إشارة أيضا الى لاشعور جماعي يخص كل شعب من الشعوب ، و(ظل) خاص به يسقطه على عدو خارجى يصبح محلا لكراهيته ، وإن كنت أظن أنها فكرة من حيث الموضوع والآليات تجري بطريقة نصف واعية ، أو قل بأن هناك من يستغلونها بوعي كامل وعن قصد كوسيلة مراوغة لتجنب مواجهة الذات والسعى الى ترقيتها . هذا الشكل من العداء الجماعى اللاواعي الذى تلعب فيه الآليات النفسية دورا بالغ التخريب والإيذاء الشعوب الشرقية هى الأكثر عرضة له لسببين ، الأول أنها لم تقطع الشوط الذى قطعه الغرب فى تغليب الوعي على معوقاته ، لا زالت أسيرة الى حد بائس لتلك المعوقات ، وكل جهودها للتغلب عليها محبطة . السبب الثانى أنه نتيجة للإحباط ولصعوبات النقد الذاتي التى تصل أحيانا لحد الاستحالة لا يملك الوعى إلا صرف النظر عن الصعب والمحال ليسلط انتباهه على عدو خارجى (إن لم يكن موجودا لاخترعه !) باعتبار الهجوم عليه هو الممكن والمتاح والمسموح ، ولا بأس من فش الخلق فيه ! ، الكثير من العنتريات وخطابات التحميس التى نراها بالفضائيات ونقرأها بالصحف هى فى الحقيقة دليل عجز (عجز ثقافى عن إيجاد موضوعات بديلة ، وعجز وقائى لتجنب وجع الدماغ) رغم ما يظهر عليها من طلاء أشوسية مزيف . الفرد ليس كائنا نبيلا إنما قابل لأن يكون إن نجح فى التغلب على ظله ، وفرصته للنجاح ضئيلة لأن أعداءه من ذاته يدثرهم ظلام نفسى ليس من وظيفة الوعى التعامل معه . أما الجماعة فلا ذات حقيقية لها ، ذاتها افتراضية متخيلة ناشئة عن إيلاف اللُحمة الاجتماعية ، وبالتالى بلا آليات مستترة يصعب الكشف عنها تسهل على الظل من مخبئه ممارسة عمله المهلك ، على المستوى الجماعى يقع الجزء الأكبر من آليات المراوغة على مرمى حجر من الوعي ويمكن كشفها لو أطلق عنان قوى الوعي الفاحصة . بتعبير آخر ، فرصة الوعي جد ضئيلة فى اكتشاف قوى الشر والإعاقة القابعة فى ظلمات النفس ، بينما فرصته فى اكتشافها على المستوى الجماعى أكبر بكثير لأنها ظاهرة الأفعال والأثر وبلا إغراءات تغري على تركها طليقة . يحتاج الوعي لقدرات استثنائية لا تتوافر إلا للخاصة للتغلب على ظله الفردى ، بينما هو مؤهل تماما للتغلب بسهولة على الظل الجماعى ما لم تحل عوامل اجتماعية مفتعلة بينه وبين ذلك .