أبان الدكتور طارق السويدان أن الفترة المقبلة ستشهد اندحار التشدد والتطرف، مبشرًا بأن منهج الوسطية بدأ يحصد ثمار انتصاره على حساب منهج التشدد، حتى في معاقل الأخير. كما أبان أن الدعوات المطالبة بالانعزال والانكفاء، ما هي إلا مواقف متشنجة وردود أفعال مؤقتة، وليست فكرًا يستطيع الصمود والبقاء. وعاب السويدان على بعض العلماء التشدد في الفتاوى، مؤكدًا أنهم بذلك قد ضيَّقوا واسعًا اشتهرت به شريعة الإسلام، كما أن بعض هؤلاء العلماء اتخذ قضية الفتوى وكأنها سباق إعلامي -حسب قوله- إلى غير ذلك من الإجابات الجريئة التي نطالعها بين ثنايا الحوار التالي: كيف ينظر الإعلام الإسلامي لواقع الأمة المعاصر، وما طرأ عليه من متغيرات ومستجدات في جميع مناحي الحياة؟ - أعتقد أن هناك ملاحظة جديرة بالنظر في واقع الأمة المعاصر في السنوات الأخيرة، وهي أن منهج الوسطية بدأ يحصد ثمار انتصاره مقابل منهج التشدد، حتى في معاقل التشدد، ولم يعد خطاب التشدد يتوسع بالسرعة السابقة نفسها، وتيارات التطرف في اعتقادي آخذة في الانحسار ما لم تأت أحداث جديدة تغذيها، ونظريات المؤامرة والتوجس والشك في الآخر والدعوات الانعزالية في الغالب هي مواقف أزمات استثنائية، وليست فكرًا قادرًا على التفاعل الإيجابي في الظروف العادية، ويجب أن نلاحظ أن هناك العديد من المؤشرات الإيجابية، منها زيادة الوعي في الأمة، كما أن قضية النهضة بدأت تتحول إلى مشاريع ملموسة في وجود أجواء معقولة من الحريات. تجدد الخطاب الإسلامي ألا تعتقدون أنه قد آن الأوان لتجديد الخطاب الإسلامي وتخليصه من جميع الأفكار والقناعات العاجزة عن النهوض بالأمة وإصلاح أمرها؟ - الخطاب الإسلامي في حالة تجدد مستمر لا ينضب، وقادر على تجاوز إشكالية التفريق ما بين الثوابت في الشريعة، وما ما يعتبره البعض ثوابت ليلغي بها وجود الرأي الآخر بناء على ثوابته الخاصة، أعتقد أن الخطاب الإسلامي سيتجدد عندما يملك القدرة على الانتقال من التعامل مع الأحداث من ثقافة “رد الفعل” إلى ثقافة “الإشعاع الحضاري” القادر على تقديم أفكار أصيلة في قيادة البشرية نحو فكر اجتماعي يعيد التوازن إلى معادلة “الروح - الجسد”، وهذا ليس صعبًا على الإطلاق، ومن السهل ملاحظة دخول أفواج من البشرية في دين الله بقوة دفعه الذاتية، على الرغم من بعض الصور السوداء التي يقدمها له بعض من ينتسبون له، ولا أجد مثالًا واضحًا على قدرة الإسلام الذاتية مثل الجدل الذي دار حول مزايا الاقتصاد الإسلامي بعد الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة، وهذا يستدعي تقديم خطاب للعقول وليس للعواطف ومن ذلك تخفيف الحديث عن الغيبيات والسحر والجن. مأزق الطائفية دخلت الأمة الإسلامية (حرب مذاهب) إذا جازت هذه التسمية، وتفاقمت المواجهة بين السنة والشيعة فما تفسيركم لهذا وكيف يمكن إطفاء هذه الحرب الباردة؟ - المشكلة الأساسية في ظني تكمن في حرية التعبير المشروطة، فلا يجوز أن يطلب مذهب معين حرية التعبير لأقلياته في الدول الأخرى، بينما هو يمارس التضييق على المذهب الآخر في مناطق نفوذه؛ فمبدأ حرية التعبير واحد لا يجب أن يتم تجزئته أو حصره في حزب أو مذهب، وقضية الخلاف بين السنة والشيعة قضية ليست جديدة، وتحكمها ثلاث إشكاليات: الأولى أن العلاقة لم يتم تجسيدها بشكل حقيقي إلا من خلال المجاملات ومراعاة كل طرف للآخر، وكانت هناك دعوات “للتقريب بين المذاهب”، وكان الأصل أن تكون هناك دعوات “للحوار بين المذاهب”؛ فالتقريب دعوة غير واقعية لحجم الاختلاف بين المذهبين، والإشكالية الثانية تكمن في إلباس الخلافات السياسية لبوس الانتصار للمذهب الديني، حيث يتم تطويع المذهب بشكل فج وساذج لتحقيق المصالح السياسية، والإشكالية الثالثة أن مستويات الحوار لم تكن في الغالب عن طريق الصفوة الفكرية بين الطرفين، وكان للكثير منها أهداف دعائية لتحقيق الإثارة الإعلامية بين أتباع المذاهب، والريادة الحضارية هي القادرة على تجاوز كل ذلك، وكلنا يعلم أن أتباع المذاهب الأربعة من أهل السنة في فترات من التاريخ كانت لهم مواقف متشددة من بعض لا تقل في بعض الأحيان عما يحدث الآن بين السنة والشيعة، وأرى أن المطلوب هو: تحديد مناطق الخلاف، وتحديد مناطق الاتفاق، وبدء حوار علمي حول الحقيقة، بعيدًا عن الإثارة مع الاعتماد على العقلاء المعتدلين في الطرفين وعدم السماح للمتشددين بتصدر وقيادة الخطاب لإعادة إنتاج الأزمات ذاتها مع صرف جهود الأمة نحو مواجهة التحديات، بعيدًا عن الخلاف التاريخي، وتحقيق الريادة والبناء الحضاري. سوق الفتوى تغيرت نظرة الشارع العربي والإسلامي بشكل عام إلى العلماء والفقهاء ورجال الدين وبرزت تصنيفات لا تخدم وحدة المسلمين وتضامنهم.. فكيف نعالج هذه الانحرافات؟ - الصراحة في هذا الموضوع مطلوبة؛ فهناك علماء انتهجوا التشدد، فنفَّروا الناس من دين الله، وهناك علماء أساؤوا في الفتوى، وحولوها إلى سوق إعلامية، وهناك فئة أخرى من العلماء اعتبرت أنها مع الفرقة الناجية، وبهذا ضيقت واسعًا، وكانت النتيجة أن العامة بدأت تشكك في وجود إسلام واحد، ووسط هذه الاتجاهات بدأت هيبة العلماء والفتوى تتراجع، في ظل وجود الفتوى وما يناقضها، والرأي الذي يبديه عالم وينقضه عالم آخر، وكان الأولى للخروج من مثل هذه الإشكاليات اللجوء إلى الفتوى الجماعية صونًا للفتوى من الاجتهادات غير المدروسة، ومع كل ما سبق فإن التحديات التي تواجه الأمة كانت تحتاج إلى مواقف ومراجعات جادة وصادقة من العلماء، خاصة في القضايا الأساسية في مجتمعاتنا الإسلامية، مثل حرية الرأي ومواجهة الاستبداد والنهوض بالأمة، وهي قضايا انصرف عنها كثير من العلماء وانشغلوا بأعمال أقل أهمية مقارنة بمشاريع نهضة الأمة. الانعتاق من القديم بصفتكم أحد الدعاة الجدد ولكم تأثير كبير في الشارع الإسلامي، وخاصة في جيل الشباب؛ فما الذي يحتاجه الدعاة للقيام بدورهم على أكمل وجه؟ - يحتاج الدعاة إلى أمور أساسية كثيرة، لكن أهمها من وجهة نظري ثلاث قضايا: الأولى هي القدرة على تشخيص الداء بنفس القدرة على وصف الدواء، فالدعاة يجب أن يمتلكوا وجهات نظر عميقة تجاه واقع البشرية وأدائها اليوم، وهذه النظريات لا تكون نتيجة تعميمات تقليدية بل نتيجة قراءات واسعة وتأملات مستمرة ورصد لحركة المجتمعات البشرية واطلاع على التقارير والدراسات المتخصصة التي تصدرها مراكز الأبحاث، فلا يجب الاعتماد على أفكار المؤلفات الإسلامية القديمة التي ظلت أفكارها تتكرر في نصف القرن الأخير، والقضية الثانية: إحياء فقهيْ المقاصد والأولويات، مع امتلاك الوسائل الإعلامية الفعالة لإيصال الرسالة وإحداث التأثير المطلوب في مستقبل هذه الرسالة، والقضية الثالثة: الحرص على تعميق الفكر لدى الجمهور وعدم الاكتفاء بمجرد الوعظ، لأن التعديل الفعال للسلوك مرجعه للقناعات وليس للعواطف. أصالة المضمون وجودته كيف يمكن جذب الشباب للإعلام الإسلامي سواء كان للمشاهدة أو للمشاركة العملية؟ - حتى يتم جذب الشباب للإعلام الإسلامي لابد من تقديم رسالة ذات مضمون أصيل يتم التعبير عنه بشكل فني مبدع، عبر وسيلة إعلامية مؤثرة لتحقيق أثر إيجابي، فالرسالة إذا خلت من المضمون الأصيل كانت تكرارًا للرسائل السقيمة التي تمتلئ بها حياة الشباب حاليًا، وإذا كانت ذات مضمون أصيل فلابد من التعبير عنها بشكل فني مبدع، فالشباب تتجاذبه العديد من الجهات والمغريات، وخلو الرسالة من الجاذبية الإعلامية يفقدها عنصر الرواج والتسويق، وإذا كانت الرسالة أصيلة ومبدعة ولم نجد البوابة أو الوسيلة الإعلامية المؤثرة، فإنها تبقى حبيسة مرسلها لا تحدث تأثيرها الإيجابي المطلوب، وهذا يتم جنبًا إلى جنب مع تفعيل أساليب جديدة لاستكشاف المبدعين والمبدعات. الكيف قبل الكم تزايد عدد الفضائيات الإسلامية وتنوعت أهدافها؛ فكيف يمكن التصدي للقنوات المنحرفة التي تستهدف الترويج لأفكارها وتدعي الإصلاح وهي في الواقع تمارس الفساد؟ - طبعا يسعدنا تزايد عدد الفضائيات الإسلامية وتنوع أهدافها، لكن ذلك في ظني مرتبط بثلاثة ضوابط، الأول: ألّا يكون الكم على حساب الكيف، فوجود قناة إسلامية واحدة أو قناتين مع قوة تأثيرها وخبراتها المهنية أفضل من وجود عشر قنوات إسلامية تقليدية ضعيفة في المضمون والشكل الفني والهوية، فلا نستطيع في مجال الإعلام الفضائي أن نقول إن المضمون ينافس المضمون، بل الصورة تنافس الصورة واللقطة تنافس اللقطة، وإذا فقدت الصورة عنصر الجذب والسرعة واللغة الحيوية، فقدت جزءًا كبيرًا من بريقها وقدرتها التنافسية، والضابط الثاني: ألّا تكون أي فضائية إسلامية جديدة نسخة من الفضائيات الموجودة، نعم قد تكون هناك قضايا مشتركة وهذا طبيعي، لكن أن تكون البرامج مكررة في الفكرة والمضمون والشكل فهذا تكرار وإغراق برامجي لا داعى له، والضابط الثالث: هو القدرة على خدمة شريحة جديدة وقد تكون تلك الشريحة جديدة في اللغة أو المنطقة الجغرافية. مشوار الرسالة هل حققت قناة “الرسالة” الهدف المنشود أم أن التحديات أكبر والمشوار طويل؟ - التحديات كبيرة والمشوار طويل، لكن قناة “الرسالة” بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بالدعم الكبير من صاحب السمو الملكي الأمير الوليد بن طلال حفظه الله، حققت في أربع سنوات ما لم تحققه فضائيات كثيرة في عشر سنوات، ولا تزال تحقق تقدمًا وتطورًا ملحوظًا، بل يأتينا الكثير من الأخوة الذين يرغبون في إطلاق فضائيات إسلامية جديدة، وكل همهم أن تكون فضائيتهم مثل قناة الرسالة، ورسالتنا تبقى في نشر المنهج الوسطي، ونعتقد أننا حققنا العديد من النجاحات في هذا الاتجاه، كما أننا نسعى للتخطيط المبكر لبرامجنا فنحن من الآن نخطط لدورة برامج رمضان لهذا العام. محرقة الفضائيات لا يزال الإعلام يخاصم أكثر الفضائيات الإسلامية، كيف تواجهون ذلك في “الرسالة”، وما الحلول المقترحة لتفادي تساقط القنوات؟ - السر في التوكل على الله ثم المؤسسية والمنهج العلمي؛ فبناء أي قناة فضائية إذا لم يتم عبر رؤية واضحة ومنهج علمي يستقرئ الواقع بشكل صحيح، فإن هذه القنوات قد يعترضها كثير من العوائق، كما يمكن ملاحظة تذبذب مستواها صعودًا وهبوطًا بسهولة، القضية الأخرى: التجديد، فالإعلام الفضائي محرقة حقيقية للنجوم والأشكال الفنية، والإبداع يحتاج دائمًا إلى تجديد في الأشكال الفنية وطرق تقديم المضمون الهادف، وفي سبيل تحقيق تلك الأهداف يجب أن نركز على الإيجابية والمبادرة وعدم الانجرار والانشغال بالرد على المخالفين إلّا من باب الاستفادة من النقد البناء بعيدًا عن اتهام النوايا والتفسيرات المعلبة. ما الخطوات المقبلة التي ينبغي القيام بها إعلاميًا لمواجهة الهجمة الإعلامية الشرسة على الإسلام والمسلمين؟ - من المهم جدا أن نستمر في تقديم رسالة إعلامية فاعلة ومتطورة ومبهرة بصريًا ولدينا الكثير من المفاجآت للعام الهجري الجديد، حيث سنطلق مجموعة جديدة من البرامج، وسنركِّز على ثلاث سياسات، الأولى: سياسة البث المباشر للعديد من برامجنا الرئيسية لمزيد من التفاعل والتواصل مع المشاهدين، ومنها البرنامج الجديد (مع القرآن) من تقديم الشيخ ناصر القطامي، حيث يستطيع المتصل مباشرة قراءة القرآن لتصحيح قراءته على يد الشيخ، كما سيعود البرنامج الاجتماعي (بدون إحراج) الذي حقق مشاهدة جماهيرية في موسمه الأول. والثانية: زيادة جرعة البرامج الشبابية للشباب والفتيات، حيث لدينا برنامج جديد يبث حاليا وهو (جيل الرسالة)، الذي نعتبره مفاجأة جميلة للشباب، وهو من تقديم الشابين عبد المجيد الفوزان ومنهل عبد القادر. والسياسة الثالثة: زيادة الاهتمام بخريطة البرامج لمخاطبة الشريحة المناسبة في الوقت المناسب. وتعتز قناة “الرسالة” في الحقيقة بجمع كبار العلماء والدعاة على شاشتها؛ حرصًا على تقديم القيم الأصيلة للمشاهد العربي من خلال قناة تحمل كل جديد وشاشة لا تتثاءب. شاكرًا لملحق “الرسالة” اهتمامه بالإعلام الإسلامي الهادف ومساهمته في التعريف به وبقضاياه.