لا أفهم كثيراً تحسُّس بعض المثقفين من التعاطي مع مصطلح «بلاد الحرمين» عند إطلاقه على وطننا المملكة العربية السعودية حتى لو كانت بعض النيات يشوبها إسقاطات سياسية أو أجندة مضادة لهذا الكيان. إن المعركة مع المصطلحات ضرورية أحياناً شريطة تحرير الفكرة وعدم الاستسلام للصراع حولها. منذ أن أطلق الملك فهد -رحمه الله- على نفسه لقب خادم الحرمين الشريفين وسار الملك عبدالله -رحمه الله- ثم الملك سلمان -حفظه الله- على ذات النهج، كان لا بد من التعامل مع تجليات ونتاج هذا الإطلاق خاصة مع الوضع السياسي والأمني الراهن من فئات ودول تريد من جعل وجود الحرمين والتشرف بإعمارهما نقطة ضعف بينما هي نقطة قوة فائقة. الأمر لا يتعلق بالصورة المادية لوجود الحرمين الشريفين، بل بالمعاني والتصورات والمنهج التابع لهذا الوجود. عند فرز الطرح المتعلق بذلك نحن أمام منهجين يستحقان الوقوف عندهما وذلك مع تحييد الأفكار الداعية لمسخ الهوية فلتلك معالجة مختلفة. المنهج الأول ينظر للنموذج السعودي المعاصر كحالة صلبة يصعب فصل مكوناتها دون فكرة العلمانية الناعمة ويصعب على أصحاب هذا النموذج تفهم الأمر دون استدعاء المقاربة الغربية وتاريخها المعروف. المنهج الثاني وهو ما أطلق عليه المفكر المسلم الدكتور علي عزت بيقوفتش «الوحدة ثنائية القطب». هذه الثنائيات – كما يرى بيقوفتش- هي ما سمح للإسلام كدين من أن يكون للدنيا والآخرة على عكس اليهودية ذلك الدين الأرضي والمسيحية ذلك الدين الأخروي. لقد شكلت مكةوالمدينة في عصر النبوة هذه الثنائية، بل إن مكة وحدها كانت ثنائية عندما نزل الوحي عند الكعبة حاضرة الدين من جهة ومركز تجارة العرب من جهة ثانية. ولقد شكلت المدينة ثنائية مستقلة كما مكة فالنبي السياسي والقائد هنا «عليه الصلاة والسلام» بدأ مهمته ببناء المسجد لا قصر الحكم. حملت الصلاة الثنائية باستصحاب التطهر من الأدران المادية وحمل الحج ثنائية التعبد واللقاء التجاري والاجتماعي والسياسي. هناك نزعة من بعض النخب الفاعلة في الميدان الفكري والثقافي لعدم فهم الأمر وفق فكرة الثنائيات الضامنة للوحدة وذلك إما حيدة لأسباب خاصة بها أو إشكال حقيقي في القدرة على استيعاب الأمر والوعي به. وهذا سبب جلي لضعف الأذرع الثقافية والإعلامية عند النزاعات والتقاطعات السياسية في مرحلة الوطن أحوج ما يكون لذلك. يجب فهم النموذج الوطني السعودي المعاصر وكل منجزاته وإخفاقاته كحالة عملية تدور حول نظرية الثنائيات، فهذه أول خطوة لحراسة المنجز بتطويره لا قولبته وحبسه في قضايا تم التعامل معها ببراجماتية فكرية وانتهازية فئوية وضعف في التكوين الثقافي واضطراب في إدراك حجم الأخطار واستحضار لعوامل شخصية وعاطفية نتجت عن فترة ركود وترف أحدثت تبلداً كبيراً في الفكر. إنه من الخطر الجسيم على وعي الأجيال المعاصرة والمقبلة أن يقدم الكيان السعودي من قبل بعض المثقفين على أنه لحظة تاريخية يمكن تجاوزها بسبب صلابتها المزعومة التي لا تسمح بانفكاك الجهات، بل الصواب هو تقديم فكرة الثنائيات المتضامنة لا المتقابلة التي تسمح بمنهج الرحمة أن يتمدد بين الطرفين وأن تنتقل هذه المفاهيم والتفاصيل إلى حياة الناس لأنه قد طال الأمد على نزاعات مكرورة مملة يتخذها أصحابها وقوداً لحضورهم الباهت. مع صعوبة تجاوز العقول والضمائر المنشطرة يجوز القول، وبناء على ضوء ما تقدم، بإمكانية التعاطي مع ملفات التحضر والنهضة ومع الشأن الخارجي والأخطار المحدقة وكذلك مآسي المسلمين واضطهادهم بهذه الثنائيات التي تجمع السياسي والمواطن دون قلق الأجندات غير المعلنة وبتقوية وتمكين للمجتمع المدني ليقوم بدوره.