في ظل الظرف المعقد أمنيا واقتصاديا وسياسيا الذي يمر به وطننا، تناولت النخب فكرة الخلاف والاختلاف وتأجيل وترحيل بعض القضايا إلى ظرف مغاير انسجاما مع الوضع الراهن. ولئن كان مثل هذا الطلب مفهوما لكن الأمر ليس بهذا التبسيط، ولا أرى المسألة مناسبة وقت من عدمها بل للفكرة بعد أعمق وجدلية أوسع. يرى الباحث الشرعي سلطان العميري – كما في تغريدات له – أن أهم موضوع للمنخرطين في المشروع الإسلامي وعليهم التعمق في دراسته وفهمه، هو طبيعة الدولة الحديثة وما يترتب عليها من آثار، حيث إن ذلك من أعظم النوازل المعاصرة..ا.ه في وطننا المملكة العربية السعودية نحن في حاجة إلى ممارسة الاختلاف من مثل هذه المنطلقات، بعيدا عن النبرة العاطفية المعتادة المتمثلة في الآخر وقبوله وما يدور في فلك هذه المصطلحات المستهلكة، التي تسقط عند أول اختبار. إن المثقف السعودي في غالب أدائه الثقافي والفكري يبرز كحالة نفسية أكثر منه حالة فكرية ثقافية، لذا تجده متقلبا مترددا متراجعا لا يستوي على منهج صلب ثابت ولا يستظل بأفق واضح المعالم. النتيجة لكل هذا هو ما نشهده من ضعف عام في المشهد الثقافي المحلي وهذا يشمل كل الأطياف. نحتاج إلى طريقة تفكير يمثلها رأي سلطان العميري المكتوب أعلاه، بدلا من الجاهزية والحسم المسبق والمرتبط بخبرات خاصة لا يصح تعميمها أو بوثوقية تجاه منهج أو فكرة خارج الإطار والمكون الوطني. يمكن إجمال بعض الأفكار في هذا السياق كما يلي.. – لن يقول أحد إن السعودية هي الإسلام لكنها نموذج إسلامي يحمل مفاهيم مركزية منذ التأسيس، مرتبطة بعوامل تاريخية معروفة فكيف يمكن الاختلاف تحت هذه المظلة ؟ هل يصب الاختلاف في التحول الفقهي أم في التحول الثقافي؟.عند ملاحظة القضايا التي تشغل النخب والرأي العام لا تجد إجابة صريحة تتسق مع مسار القضية، بل يرتهن كل متصدر لنسق خاص لتؤول الأمور إلى تشويش مزعج وحيدات مربكة. في التحول الفقهي المسألة تجديد واجتهاد وفتح آفاق جديدة وفي التحول الثقافي ضبابية في الهوية وتشكيك في القيم وتكريس لكوننا حالة مؤقتة ستنتهي إلى شكل جديد. – للأزمات والحروب رجعى سياسية تعيد النصاب لكثير من النزاعات، فهل لها رجعى ثقافية وامتداد فكري أيضا؟ قد يبدو هذا الأمر مستجدا بادي الرأي، لذا تجد أن الروح الثقافية للكيانات الوطنية المعاصرة حاضرة في هذه الصراعات، وهنا يبدو المأزق كبيرا لدى طالبي التحول الثقافي الذين يعلنون فصاما حادا في المواقف وتقلبا عنيفا في الآراء، ومن كان منهم صادقا مع نفسه تجده ساكنا في أحسن أحواله. وهنا السؤال عن الوطنية وحدودها وتضاربها مع الآيدلوجيا، وعن المسافة الفاصلة بين هذه المكونات التي يمارس فيها المختلفون طبائعهم، وعن استمداد القوة من المجال الثقافي لخدمة المشهد السياسي لا شخص السياسي. – بين الهيمنة والسيطرة خيط لا يبدو رفيعا، فالهيمنة معنية بالحالة المجملة والشخصية العامة والهوية المعلنة للكيان بأبعاده السياسية والاجتماعية، وهي حالة (ملزمة) مقابل السيطرة التي هي حالة (معلمة) وتختص بالأفراد وقناعاتهم وسلوكهم، وهذا الأمر ليس محررا بطريقة كافية في حالتنا السعودية وكأن الحيرة وتأخير الحسم أمر يراد.! – لا يمكن نفي عنصر المؤامرة عند الحديث في هذه الظروف، لكن الإحالة التامة عليها ليس من الحكمة. ففي مجتمعنا ما يمكن أن نطلق عليه عوامل واقعية تؤول تلقائيا إلى نتائج غير مرغوبة يجب تمييزها والتفريق بينها في مناشط العملية العقلية. الحالة الاقتصادية والطبقية الاجتماعية والتقلبات الحادة في العالم المحيط والانفتاح عليها، مع صعود ظاهر لشخصية الفرد تمثلها إفرازات مواقع التواصل. كل تلك العوامل وغيرها تحتاج إلى تفكيك يتقن الفرز والتشخيص الدقيق ويجيب على أسئلة التنوع والتضاد. إن من يستسلم لطبائع الاختلاف ويرى في الائتلاف مصرعا للأفراد ويرى المجتمع مصابا بتشوش في الرؤية وارتباكا في التفكير، وهو مأخوذ بإشكالات عميقة في التكوين السعودي ما زلنا بعيدين عن مقاربتها بجدية.