الزمان يوافق العام الثاني عشر بعد المائة الرابعة والألف الأولى من الهجرة، والمكان السكن الجامعي حين تحلق مجموعة من طلاب الطب يتدارسون مادة التشريح، فكان أن قرأ عليهم أحدهم قائلا ومازحا (قال المؤلف رحمه الله..) محاكيا بذلك ثقافة الدروس العلمية في المساجد ذات الزخم الحاضر ذلك الوقت. توقف الثاني وقال كيف تترحم على غير المسلم بل قل (عليه من الله ما يستحق) وتضاحكوا واتفقوا على حل وسط تقديرا للفائدة وهو (هداه الله)! هذا السيناريو وعلى الرغم من كونه مازحا إلا أنه يستبطن موقفا ما. ندعه الآن وننتقل إلى سيناريو آخر. بعد عقد ونصف العقد من الحدث السابق جاءت موجة التيار الليبرالي، وخرج إلى العلن موقف ينزع صفة العلم عن المتخصصين في الشريعة ويحصرها في العلوم المادية، بل وفي مناكفة فكرية يرى هذا التيار أن الجنة مصير العلماء الذين خدموا الإنسانية حتى لو كانوا غير مسلمين مع الترحم عليهم فيما يشبه الجزم بذلك المصير. هذا الموقف لم يأتِ من مراهقي الفكر، بل تبنى هذه الآراء كُتّاب ورموز ثقافية معروفة. وهذا السيناريو يستبطن أيضا موقفا آخر ندعه إلى حين. وبعد فترة من برنامج الابتعاث الخارجي ظهرت على سطح الإعلام الجديد والقديم أخبار تقول بنسبة اكتشافات علمية في مجالات التقنية والطب وغيرها إلى مبتعثين سعوديين دون توضيح قطعية هذا الاكتشاف من عدمه، وما إذا كان الطالب السعودي المبتعث جزءا من فريق في التجربة والبحث أم أنه بقدرات فردية قام بذلك. هذا الأمر أصبح محل انتقاد من الناشطين في محاربة الشهادات والإنجازات الوهمية كما يقولون، ويرونه انعكاساً لإعلام غير مهني وغير متخصص في الأخبار العلمية، بل يتعدى ذلك ليكون تعبيراً اجتماعياً تقليدياً ينطلق من العلاقات الخاصة ومن التفاخر القبلي والعائلي. يقول الدكتور سمير أبو زيد عن التجربة العربية والتأسيس العلمي للنهضة (بعد قرن ونصف القرن من بدايات النهضة العربية الحديثة يمكن القول بحدوث تقدم في مجالات النظم المجتمعية والفنون والآداب والبنية التحتية، لكن بقي مجال واحد سقط تماما من خريطة هذا التقدم النسبي في مسيرة النهضة هو العلم. لم تُنتج المجتمعات العربية باستقلال عن الغرب ابتكاراً علمياً واحداً ولا تطبيقاً تكنولوجياً جديداً. كل ما تم إما باستيراد منظمات غربية بشكل كامل أو من خلال توكيلات علمية). بتصرف من كتاب (العلم والنظرة العربية إلى العالم). يرى بعض الأشخاص أن الغرب صنع الإشكال عندما لم يكتفِ بنجاحه العلمي، بل قام بالتأويل الفلسفي للعلم، مما نتج عنه هذا الصراع بين الدين والعلم، وتوابع ذلك المعروفة بما فيه الإسقاط على ثقافات أخرى عبر أذرع داخلية وخارجية قامت بتأزيم العلاقة، وأحدثت انشغالا يتمثل في النماذج أعلاه. ويرى فريق الخلل في الفرد العربي وتكوينه الرافض للعلم على مستوى السلوك الخاص والعام. ويبرر آخرون بلوم النظم السياسية التي لم تحدث حراكا يطلق طاقات المجتمع. مهما يكن الأمر فإننا أمام واقع يعاني من هذه الإشكالية، والشواهد على ذلك كثيرة يمكن ملاحظتها في الجانب التنموي؛ إذ لا نزال في حالة إنكار حيال مناحي الإخفاق، فلا نحفر في عمقها لنبصر رفض العلم وتحمل نتائجه التي ستُلقي حتما بكثير من العقول خارج الميدان. إن التعويل على التعليم كميدان للنجاة يشكل تحديا كبيرا يمكن من استنهاض الجهود والأفكار لمغالبة التخلف الحضاري وإشكالات النهضة بعيدا عن جلد الذات وصناعة الفصام والتنكر لحضارتنا التي جادت في زمن مضى بالعلم، وما علينا سوى مراجعة شروط ذلك النجاح لنبصر الدرب.