في أحيان كثيرة أشعر بأن مصيبة هذه الأمة في مثقفيها الذين صنعهم الإعلام ورعاهم وهدهدهم حتى اشتد عودهم وقوي تأثيرهم واستحكم دورهم، وأشعر بأن كارثتها في نخبتها التي اختار الإعلام أن يقدمها ويجرف عن طريقها العقل العربي، وبأن القوة الناعمة التي تتسيَّد الساحة الإعلامية في الوطن العربي هي قوة خشنة ظاهرها ناعم ولكنها في الباطن تمتلك مخالب وأنياباً تغرسها في المجتمع لأسباب كثيرة، وبأن بعض من ينتمون لتلك النخبة ما هم إلا مجموعة من المتطفلين الذين لا يفقهون شيئاً كثيراً عن حقيقة أدوارهم، فتطغى أيديولوجياتهم تارة وتارة أخرى أهواؤهم على طريقة تفكيرهم، فنراهم يندفعون خلف انفعالات غوغائية، وتفكير أرعن، وشكل طفولي جداً في التصرفات والسلوك، فيتسببون في إحداث شروخ عميقة بين الشعوب، ويحدثون خللاً لا يمكن معالجته في عواطف من يستثيرونهم بخطاب تحريضي، انفعالي، ولغة سوقية وألفاظ مبتذلة. بعض المثقفين لا علاقة لهم بالثقافة التي يربطون أنفسهم بها ظلماً وعدواناً. سواء كان المثقف مفكراً أو مبدعاً أو فناناً أو كاتباً أو إعلامياً، نرى بعضهم وقد تغلبت عليه مصلحته الخاصة، ونرى بعضهم وقد كشف عن ضحالة في الفكر وضيق في الأفق، واندفاع في تبنِّي المواقف دون رويَّة ودون نظرة ثاقبة ومتأنية. بعض المثقفين اليوم يتساقطون، تنكشف الأقنعة عنهم، وهم يمارسون دوراً بغيضاً في تمزيق نسيج هذه الأمة، وفي استغلال الأحداث لتوجيه الرأي العام نحو التضليل. المطلوب من المثقف العربي في هذه الفترة أن يكون لسان هذه الأمة وعين مواطنيها، المطلوب من مثقف هذه الأمة أن يكون يقظ الضمير، والذهن، وأن يمتلك القدرة على استشعار مكامن الخطر على هوية هذه الأمة وعلى مقدراتها وعلى أمن شعوبها، المطلوب من المثقف أن يترفع عن الأيديولوجيات والمصالح، وألا يكون متلوناً إذا الريح مالت مال حيث تميل. المطلوب من مثقف هذه الأمة أن يعلن عن مواقفه ولا يختبئ، ولا يتوارى لكي يرى بعد ذلك أين ترسو السفينة لكي يُهرع لاستقبالها، والترحيب بمن فيها. المطلوب من المثقف العربي أن يحمل مشاعل الأمل وأن ينثر بذور الإرادة في مواطن هذه الأمة، وألا يكون خطابه متشائماً، ألا يصيبنا في مقتل، فلا ينتهك مشاعر التفاؤل ولا يسرق مساحات الأمل من حياتنا. يجب أن يُبصِّر المثقف العربي المواطنين العرب بطبيعة المخاطر وكيفية مواجهتها، وأن يكون الجندي الذي يحمي العقلية العربية من مخاطر التشويه والتضليل والتغييب والتغريب، وأن يكون نصيراً لقضايا أمته. والملاحظ اليوم التباين الشديد في مواقف المثقفين العرب ونحن نواجه أخطر المؤامرات، ونعيش واحدة من أصعب المراحل التاريخية، فبعض المثقفين يحاول أن يستفيد من الأزمة والمرحلة لكي يصنع لنفسه أسهماً يستفيد منها، إنه يلمِّع اسمه، ويحاول أن يكون موجوداً لكي ينهل من على جميع الموائد، كالقطط السمان، يبحث له عن مكان عند كل مائدة ولا يهم ما يبيعه ولا ما يفقده بانتهازيته، ووصوليته، وأنانيته، مصلحته تطغى، ووسائله خبيثة في تبرير كل دور يقوم به، وتصويره أدواره بالوطنية والمثالية. وهنالك من يكتفي بدور المتفرج من بعيد وكأن ما يجري لا يعنيه في شيء، إنه يفضل أن يكون في الأمان، وكأن يحضر مباراة يقف فيها على الحياد، يقوم فيها بدور المتفرج من بعيد لكي يعرف النتيجة. وهنالك من نسمع لتحليلاته فلا نفقه شيئاً مما يريد أن يقول، فهو يجنح إلى الإغراق في الفلسفة دون فكر واضح ولا رسالة مفهومة ولا تحليل مفهوم، مثقفون تشعر معهم بأنك غير قادر على الفهم، هم لا يستطيعون الوصول إلى القارئ أو المستمع العادي، يعيشون في أبراج بعيدة عن الواقع، يفلسفون الأمور ليصعِّبوا على المستمع الفهم لكي يظهروا في النهاية بمظهر من يفهم فقط، وأن الآخرين لا يملكون نفس نبوغهم الوهمي. وهنالك فئة دون هوية ولا قضية ولا موقف واضح، إنهم متلونون، يطحنون مادتهم الإعلامية، بحسب المزاج السائد، يُرضون هذا ويرضون ذاك، ويخدمون الوسيلة الإعلامية التي ينطلقون من خلالها في حديثهم أو كتاباتهم. أما المثقف الحقيقي الذي نحتاجه، فدوره في هذه الفترة دور مصيري، ونحن في أمسِّ الحاجة إليه، إنه المثقف الذي يمتلك الرؤية، والفكر، ويمتلك البصيرة والوعي والإدراك بكل تفاصيل المشهد، يمتلك مهارة قراءة ما يحدث، لديه القدرة على استبصار ما قد يأتي به الغد، يمتلك غيرة على وطنه وأمته، صوته يحركه ضمير حي، لا يمكن أن يشتريه أحد، لا يتلون ولا يتغير، مبدأه وثوابته هي ما يحكم مواقفه وآراءه، متجرداً من الطائفية والحزبية، يتمتع بالاتزان الانفعالي فلا ينجرف أمام طوفان افتعال الأزمات ولا ينهار أمام التهويل، يتطرق إلى القضايا الجادة ويبحث في الأسباب، ويحلل بناءً على دراية ووعي وقراءة متأنية للحوادث والتاريخ.