أذكر أن الروائية الجزائرية البارعة أحلام مستغانمي صاحبة: ذاكرة الجسد، عابر سرير، الأسود يليق فيك، وفوضى الحواس. كتبت مقالا ساخنا ترثي حالها وكثيرين ممن يستحقون الاحتفاء والإشادة بهم وبجهودهم على مساحة رقعة الوطن العربي، إلا أن غالبية الجمهور – مع الأسف الشديد – «عاوز شيئا آخر» لا يمت للأدب والثقافة بشيء، حيث تمتد عاطفته الجياشة وتعبيراته نحو «دي دي واه» مقطع للمطرب خالد وأمثاله كشعبولة، والقائمة تمتلئ بأصحاب الذائقة الفنية المنحدرة إلى درجة الإسفاف، فيما تبقى مستغانمي صاحبة سوابق التأليف الروائي المتميز وشقيقاتها بنت الجزيرة وغادة السمان وغيرهن من اللواتي احترفن الثقافة والأدب، فأثمر يراعهن نتاجا خصبا لإرواء العقل وإمتاع الذوق، ولمّا كان أغلبية الشباب العربي من خليجه إلى محيطه ينساقون نحو الأغنيات الهابطة ذوقا وفكرا، الغريبة كلماتها، العجيبة موسيقاها، وفوق ذلك يدندنون بها ويهزون أجسادهم طرباً، نتساءل بكثير من العجب! علام تدل؟ لا شك أنها أزمة فكر، أزمة وعي، أزمة ثقافة، أزمة معرفة، وحتى ينفك كثير من الشباب المأسور تحت أغلال هذا الذوق الهابط لا بد من الالتفات إلى شيئين مهمين أولاً: التعليم، ثانياً: الإعلام. فمن خلال هذين العاملين تستطيع تلك الشريحة التمييز ما بين الغث والسمين، طبعا التعليم الذي ينمي العقل ويوسع الفكر ويبني المعرفة، أما وسائل الإعلام بمختلف أنواعها وأشكالها فهي القوة الناعمة التي تجعل من أبي جعران مماثلا للأسد، ومن الحلزون نمراً، ومن الحاشية متناً ومن المهمش شيئا مهما، ومن يستطيع فعل ذلك إنه الإعلام المسطح الإعلام الهش، وهنا لا يستقيم عود إلا بإعلام يقدر ماذا ينبغي نشره أو بثه رحمة بعقول الأجيال الذين لا يجد بعضهم مناصا من الانزياح نحو ما هو غرائبي وهش وبراق، وحين تتساءل أحلام عن هذه المفارقة العجيبة بفقدان اسمها من ذاكرة كثيرين ويسألونها هل هي من بلد المغني صاحب أغنية دي دي واه ولم يعرفوا ما قدمت من نتاج روائي باذخ، حقيقة الموقف يجعلنا نصاب بالحيرة والدهشة من هذه العقلية المأزومة، والعجيب أن المغني صاحب دي دي واه بلغت شهرته بما يزيد عن رئيس دولته، الانحياز مع مستغانمي ليس من أجل دفقة عاطفية أبدا بل لأنها جديرة بالاحتفاء والتكريم في جميع الأوساط الثقافية، ويكفي ما سطرته أناملها من أحداث تاريخية وسياسية واجتماعية في متن روائي بأسلوب متفرد ومعان عميقة اختزالاً للتاريخ في وريقات يصعب على المؤرخ تقديمه، فيما يستطيع الروائي أو الروائية البارعان تسريب التاريخ بطريقة ممتعة ومدهشة تشد أهداب العيون وتحقق متعة معرفية، لنعد إلى صلب الموضوع، لم مغن من درجة عاشرة يحقق هذه الشهرة وهذا الاحتفاء ويتم استقباله في المطارات كالزعماء؟، ويا ترى هل يجيء يوم من الأيام يحدث فيه توازن منطقي وعقلاني؟ بتجاوز التسطيح الثقافي، ولندقق الاستماع إلى بعض الأغنيات التي ملأت الأذن العربية من الماء إلى الماء، نجد أن كلماتها متنافرة وموسيقاها صاخبة ولحنها يعتمد على الصراخ والضجيج والتحفيز على هز الأجساد، لتستقبلها القنوات الفضائية بكل ترحاب لتواصل العزف النشاز، في حين روايات نجيب محفوظ تتعرض لأشعة الشمس الحارقة فوق الأرصفة دون الالتفات إليها إلا من القليلين، لا نمني أنفسنا بإعطاء الروائي أو المفكر القيمة العالية لدرجة أن المجتمع المحيط يشاركه بعدم إحداث أي ضجيج أثناء ما يكتب، وهذا ما يتم فعله عندما يكتب الكاتب عجنون، حيث إن كل من يمر بالشارع يقف دون المساس بهذه اللحظة الإلهامية. لا تبتئس السيدة أحلام مستغانمي فالمعاناة من إشكالية أزمة الوعي تضرب بأطنابها في العقول بل تعشعش فيه، وليس لنا من مخرج إلا بتعليم جاد ومؤثر وإعلام نزيه وصادق وقادر على فرز ما هو جيد وسيىء. لك أن ترضي يامستغانمي بنصيبك في الشهرة التي رجّحت دي دي واه.