من أكثر ما يستفزّ العامة أن يشار إلى العولمة على أنها قضاء محتوم، لا يمكن الفرار منه أو تجاوزه، فهم يرون أن خصوصية المجتمع تتعارض مع تيار العولمة، بل هي السد المنيع الذي يجب أن يتصدى ويحجب مدها، وأكثر ما يتوجس منه الناس من أي تيار جديد أن يمس ثوابتنا الدينية. وإن كانت العولمة هي ذلك البحر الهائجةُ رياحُهُ، الجارف، فإنّه لكل مجتمع ملامح، رسمت تشكيلها خصوصية، تقوم على أسس من العادة والعبادة، وهي تثبت تفرده عن غيره من المجتمعات المجاورة، مهما ارتبط معهم بأصل عرقي أو قومي أو ديني، ولا تعني هذه الخصوصيات المميزة أفضلية له على غيره من المجتمعات، بقدر ما هي أسلوب ارتضاه المجتمع وتبناه، ليصبح حقيقة تسنده وتثبت وجوده وتنظم دورة الحياة فيه. بعض تلك الخصوصيات يقوم على مفاهيم لعادات ثابتة، توارثتها الأجيال، وأصبحت سمة لا يمكن التخلي عنها، وأعطاها العقل الجمعي الثبات بالتواتر، وقدسية التقدير؛ مما أنسى الناس أنها مجرد عادات اقتربت من الثوابت الدينية، وهي في الحقيقة عادات متوارثة فحسب، وبعض تلك الخصوصيات تعتمد على ثوابت دينية، تتفاوت المجتمعات في الالتزام بها وفهم منطوق التوجيه فيها، وتعطي مساحات الفهم تفاوتاً في رسم ما يتداخل في دائرة الالتزام، ما يكون الحكم عليه صريحاً، حلال أو حرام، وفي هذا سعة تتحرك في أطرها الأمة الإسلامية، يكشف عنه هذا التعدد في المذاهب المتفق على قبولها، رغم اختلافها، والإقرار بأن من يتبعها (مسلم)، له من الحقوق وعليه من الواجبات المشروعة، مادام يلتزم بالخط الفاصل بين الحلال والحرام، أما ما عداه فيدخل في «الاختلاف رحمة». إن فتح الأبواب للعولمة لا يملك أحد أو جهة مفاتيحه، وما ينتظر من هيئات المجتمع بجميع مؤسساته أن تعي مسؤولياتها، فلا تنجرف أو تنحرف، فكما أن الانفتاح غير المحدود، والانبطاح بلا وعي، سيغيب هويتنا الاجتماعية، فإنّ التخلف سيعزل المجتمع، ويسربله بعتمة لا نرى منها الضوء، ولا نعرف ما يحاك لنا، ولا نعي ما يجري حولنا، بل سنُخْتَرَق حتى الأعماق ونُطَوَّق حتى الأعناق.