نعيش في عالم مملوء بالمتناقضات، يرى بعضهم فيه ألا ضير في إضافة متناقض آخر، وأصبح من الغريب أن نستنكر تلك الإضافة، مادام الكون من حولنا يعج بألوان وأشكال منها، بل فُرِضَ علينا أن نتعايش مع وجودها مثل بقية الناس، وكأنها أمر طبيعي. ومع ذلك يرفض العقل تجاهل أي حركة «استعباط»، لأنها بكل بساطة حين تأتي تصدمنا بكمية الاستخفاف الذي تحويه بعقولنا، وأسوأ ما نضطر إلى أن نفعله حيالها هو محاولة تمريرها وبلعها بأي وسيلة، وإن نجحنا في ذلك، فلا ننسى لحظة الصمت، وقبولنا فكرة ادعاء «العباطة»، بل سيؤلمنا وخز التأنيب كثيراً، وسنلوم أنفسنا، لأننا في اللحظة تلك التي اخترنا فيها الصمت لم تكن سوى إعلان منا بالموافقة على استغفالنا. كانت البداية في عام 2012 حين تجاهلت اللجنة الأولمبية السعودية تماماً حقيقة أن المرأة في بلدنا مازالت تخوض معارك من أجل السماح لها بدراسة الرياضة في المدارس الحكومية، ومازال قطاع التعليم والرياضة يعاني من «الاحتساب الإلكتروني»، والغزوات المضادة على الديوان في كل مرة تتجدد فيها المطالب، التي تنادي بضرورة وجود أندية رياضية نسائية، حيث تتعسكر في كل مرة نفس المجموعة المتخصصة في «ركن المرأة» لتهوِّل وتروِّع وتهدِّد إلى أن «أسالت من تهويلاتها دموع المسؤولين على الهواء». ومع ذلك نجحت اللجنة في إقحام فتاتين في أولمبياد لندن دون أن يكون لها فضل أو دور في تدريبهما أو تأهيلهما رياضياً بشكل يليق بالحدث الأولمبي. وعلى الرغم من ذلك أكملت العداءة الفتية، التي كانت في ال 19 من عمرها آنذاك، سباق ال 800 م، بعد أن تمكنت من الوصول إلى خط النهاية «آخر مجموعتها» وسط تصفيق حار من الجماهير لتشجيعها على إنهاء السباق، وخرجت الفتاة الصغيرة الأخرى التي كانت تبلغ من العمر 16 سنة من المنافسة من الدور الأول للجودو بعد خسارتها الفورية أمام اللاعبة البورتوريكية. وهذا أمر متوقع، لأن المنافسة في الألعاب الأولمبية لا تأتي فجأة بل بعد سنوات من التدريب والعمل، وتبدأ من سن صغيرة في المدرسة، ليكبر الطفل وتنمو مهارته بشكل احترافي قبل أن يفكر في المنافسة. تلك الهزائم لم تكن تهم الرياضة في السعودية، ولا الرياضيين، المهم هو تسجيل الحضور، لأن ميثاق اللجنة الأولمبية الدولية يحتِّم على كل دولة مشاركة امرأة واحدة على الأقل في الدورات الأولمبية، وفي حال عدم تطبيق ذلك تُستبعد تلك الدولة من المشاركة. ما يعني أن الطريق إلى الأولمبياد لابد أن يمر بالنساء، اللواتي تم الاعتراف بأهليتهن فجأة، فمن أجل الرياضة كل شيء يهون حتى لو اضطررنا إلى أن نتظاهر بأن لدينا لاعبات دوليات محترفات، طالما سيغطي ذلك الأمر الشرط المطلوب حتى لو كان حضورهن ليس له أساس على أرض الواقع، وحتى لو كانت ألعاب القوى والرماية والسباحة المحلية مغيبة تماماً عن الساحة الرياضية، ولا يوجد دعم حقيقي لها يماثل ذاك الدعم الجبار لكرة القدم في الأندية السعودية التي تبنت موضة جديدة بإقامة مباريات باذخة في العاصمة البريطانية ليحضرها النخبة والأثرياء في فترة إجازتهم الصيفية. وبعد تجربة لندن 2012 لم يتم الاستفادة من الوقت لتنمية وتطوير أي لعبة من الألعاب ال 26 الأولمبية للفتيات ومنها الرماية، والقوس والنشاب، أو حتى تنس الطاولة في الفترة ما بين لندن والبرازيل، هذا لو كان أمر المشاركة حقيقياً، بل تم صب مزيد من الاهتمام في كرة القدم، وكرة القدم، وكرة القدم. لست ضد مشاركة المرأة في أي نشاط رياضي، لأن الرياضة إحدى الحريات العامة التي من المفترض أن تكون متاحة للجميع، ولكنني ضد استغلالها بصفتها واجهة، أو جسراً للوصول من خلالها إلى مصلحة معينة، وضد ثقافة التناقض الانتقائية التي تبنى حول أهليتها في حق يخصها، وتُزال في لمح البصر في حقٍ آخر حسب مصلحة المنتفع منها، وبعد أن تنتهي تعود لتُعامل على أنها «قاصرٌ» لا تملك حق إنهاء أي معاملة رسمية أو حكومية تخصها دون أن تحصل على ورقة موافقة من ذكرٍ، تتحدد فيها ملكيته لأمرها مهما بلغ عمرها. نحن ضد ثقافة استغلال المرأة بأي شكل من الأشكال من أجل إكمال النصاب هنا، أو استيفاء شرط هناك. نحن نريد أن يتصرف كل إنسان بالغ عاقل في حدود الحرية المتاحة للجميع. وقبل النهاية، نشكر جميع المشاركات على قبولهن هذا التحدي، وأسرهن لأنها آمنت بموهبتهن وساندتهن بالتدريب والدعم، والأهم شكرهن على وجودهن الذي أنقذ فريق المملكة بأكمله من الاستبعاد من الألعاب الأولمبية للمرة الثانية. وبما أن الرياضة في البلد أثبتت بأن «سرها باتع»، وتملك نفوذاً غير طبيعي في تغيير ملامح الظروف الصعبة، أقترح أن تقود اللجنة الأولمبية وهيئة الرياضة برامج لتمكين المرأة المتعثرة في عدة قطاعات حكومية لعلها بذلك تنجح في إعطائها حقوقها المدنية المغيبة دون الحاجة إلى أن ترسل مائة برقية وألف معروض ومليون تظلم والتماس.