إن الاتحاد الأوروبي أصبح اليوم علامة فارقة في سماء هذا النسق الدولي الرحب، فهو تجربة سياسية واقتصادية واجتماعية ناجحة، وخروج «بريطانيا» من هذا الاتحاد لا يقلل من شأنه بأي حال من الأحوال.. فهذا الاتحاد بنجاحاته المتواصلة أسوة لغيره من دول العالم العربية وغيرها.. إذاً لماذا هذا الاتحاد الأوروبي ناجح بكل المقاييس؟ هل لأن دول هذا الاتحاد أدركت عواقب التمزق، وما آلت إليه نتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية من خسائر وخيمة.. فمن هذا وذاك أدركت حينها أن الاتحاد والانضواء تحت راية واحدة ضرورة سياسية واقتصادية مع احتفاظ كل دولة بهويتها الدولية الخاصة بها.. المهم أن هناك إطاراً عامّاً يجمعهم يكون طوق نجاة عند الأزمات في هذه الدولة أو تلك.. وهذا النجاح يُحسب لمثل هذا الاتحاد.. علماً أن خروج بريطانيا لسبب أو لآخر من هذا الاتحاد هو خطوة غير محسوبة! وسوف تنال من هذا الخروج بعض المآزق؛ فالتغريد خارج السرب ربما له مخاطره ليس على صعيد دون صعيد، بل على جميع الأصعدة.. وإذا كان الاتحاد الأوروبي تجربة ناجحة وآتى أكله، فإنه يتحتم على الشعوب الأخرى أن تحذو حذو هذا الاتحاد. إن بعض الدول تخاف أن يؤدي الاتحاد إلى ضياع الهوية ونقص السيادة!! كلا؛ فالاتحادات السياسية والاقتصادية ما هي إلا ضرب من ضروب التعاون، وتقاسم تبعات الأزمات. والدليل على ذلك دول مجلس التعاون الخليجي ولو أنه لم يصل بعد إلى مصاف الاتحادات.. إلا أن نجاحاتها ملموسة، لاسيما النواحي العسكرية المتمثلة في «درع الجزيرة» ناهيكم عن بعض معطياته السياسية والاقتصادية.. ومن هذا المنطلق فإن تصعيد هذا المجلس ورفعه إلى ما هو أعلى سقفاً من ذلك وهو الاتحاد مطلبٌ مُلح.. إلا أن بعض الشعوب العربية تتطلع إلى اتحاد يضم جميع الدول العربية، بل أبعد من ذلك بكثير والدول الإسلامية كذلك.. إن في الاتحاد قوة في كل أنماط الحياة المختلفة، والاتحاد له وجود في مجاذير الأديان السماوية تحت مسمى «تضامن الجميع». إذاً الاتحادات سواء كانت على مستوى أرفع وأعلى درجة على غرار الاتحاد الأوروبي أو أقل درجة على نموذج مجلس التعاون الخليجي، فإن هدفها أن يعيش العالم في سلام ووئام يُبارك العمل الطيب، ويُحارب العمل السيئ ويبتعد عنه. إذاً ما أحوج الأمة اليوم إلى الاتحاد مع بقاء هوية كل دولة على حدة، فلكل دولة خصوصيتها.. وعَوْداً إلى تجربة الاتحاد الأوروبي، فإني أرى نتائجه ماثلة للعيان لا ينكرها ذو بصيرة وبصر.. على الرغم من أن قدمي لم تطأ أرض أي دولة من دول هذا الاتحاد وإنما استشففت نتائج هذه التجربة الملهمة عبر شاشة التلفاز فحسب!! فما كان عساي أن أقول لو وقفت على هذه التجربة عن كثب؟ فإني كنت سأتكلم عنه بصورة أعمق وأشمل.. إننا نحن شعوب العالم العربي إذا أردنا أن نشم ذلك العبير الذي شمّه الاتحاد الأوروبي، فإنه لزاماً علينا أن نحذو حذوهم، وقبل أن أرفع بصري إلى تجربة هذا الاتحاد فإن ديننا الإسلامي قد جاء بمضامين متينة لعل من أسماها وأثمنها مبدأ التضامن، فإنه هو الملاذ الوحيد من تشرذمنا وتمزقنا. ولكن هذا التضامن لا بد له من أدوات ووسائل تحقق الغاية منه وهي صلاح النية والعمل الجاد من أجل تحقيق المبتغى.. إن الاتحاد الأوروبي ما كان لينجح هذه النجاحات إلا لأنه أقيم بنية صادقة، وبتفانٍ منقطع النظير من أجل الكل، على الرغم من كون هذا الاتحاد لا ينطق بلغة واحدة وليس له تاريخ مشترك.. فما أجدرنا نحن العالم العربي وبين شعوبنا صلات متعددة.. نتكلم لغة واحدة وديننا واحد وشعوبنا واحدة فنحن أولى بالاتحاد منهم.. إن عالمنا العربي لو كان يولي الاتحاد أهمية كبيرة لما تقطعت أواصرنا! ولما دبت المشكلات في ساحتنا!! وما جهود بلادي في هذا الصدد إلا جهود مشكورة؛ فبلادي حفظها الله هي في طليعة تلك الدول التي تدعو لمثل هذا التوجه.. وأخيراً أرجو لبلادنا العربية والإسلامية أن تتسامى فوق مشكلاتها وأزماتها وأن تتطلع إلى الأمام سالكة كل ما من شأنه رفع مستوى هذه الشعوب إلى أعلى درجات الرقي والحضارة.. وما دمت أتكلم عن الاتحادات السياسية فإن بعضهم يخاف أن تنصهر سيادته في هذا الاتحاد أو ذاك، بل على العكس إن الاتحادات السياسية لن تأتي على سيادة هذه الدولة أو تلك فلكل دولة سماتها وخصائصها التي تمتاز بها.