في السابع من فبراير من العام 1989 وفي القصر الملكي بمدينة مراكش المغربية تشابكت أيدي كل من الرئيس التونسي زين العابدين بن علي والعقيد الليبي معمر القذافي بالإضافة للملك المغربي الحسن الثاني والرئيس الموريتاني العقيد معاوية ولد سيد احمد الطايع ومعهم الرئيس الشاذلي بن جديد رئيس الجزائر، وبينما كانت الجماهير المحتشدة بالخارج تعلو هتافاتها، أخذ هؤلاء القادة يردون على تلك الهتافات حيث الألوف يقفون أمام الشرفة الملكية منذ الصباح الباكر، بعد أن أعلن القادة الخمسة وثيقة إنشاء اتحاد المغرب العربي، ومنذ ذلك التاريخ جرت مياه كثيرة تحت الجسر المغاربي الذي يرنو الى تحقيق مبادئ الوثيقة وسط تحولات أبرزها رياح الربيع العربي التي هبت من هناك. ملامح وثيقة الاتحاد وأوضحت الوثيقة بجلاء، الأسس التي تم عليها إقامة الاتحاد المغاربي وهي (وحدة الدين واللغة والتاريخ، ووحدة الأماني والتطلعات والمصير، نظرا لما يحدث من تحولات وما يتم من ترابط وتكامل على الصعيد الدولي بصفة عامة،وما تواجهه دولنا وشعوبنا من تحديات في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، ولم تنس الوثيقة التذكير بأهمية التضامن بين دول الاتحاد حينما قالت: (نظرا لما نلمسه من الحاجة الملحة إلى تضافر جهود دولنا)، وجددت بالإضافة لذلك أهداف هذا الاتحاد بين دول المغرب الخمس باعتبار أن ذلك يمثل أفضل السبل المؤدية إلى صرح المغرب العربي والسير على نهج الوحدات الجهوية عبر العالم، وما تتميز به من تدرج على خطوات رصينة وثابتة وما طبع تخطيطها من عقلانية، معتبرة المرحلة بأنها مرحلة أساسية لتحقيق الوحدة العربية. حركات التحرر.. بذورالوحدة وظهرت الملامح الأولى لتوحيد شعوب منطقة المغرب العربي طوال عهد الاستعمار حيث تمثلت بالأساس في محاولات الحركات الوطنية التحررية في هذه الدول عبر التنسيق في ما بينها على أساس وحدة النظام من اجل الاستقلال في إطار مغاربي شامل، وانتهى هذا التنسيق بتأسيس مكتب المغرب العربي في فبراير 1947 بالقاهرة. وجاءت نشأة الاتحاد المغاربي في نهاية الثمانينيات بالتزامن مع ظروف دولية وقارية تميزت بالخصوص في انهيار الاتحاد السوفيتي الذي تفككت معه المنظومة الشيوعية الأمر الذي كان له أثر واضح على بعض الأنظمة العربية والمغربية وبخاصة تلك التي كانت تسير في فلك الاشتراكية،حيث بدأت تلك الأنظمة تميل تدريجيا نحو المنظومة الرأسمالية واقتصاد السوق. وبالإضافة لذلك بدأت الهيمنة الأمريكية تفرض نفسها على العالم، فأدى ذلك إلى بروز قناعات لدى عدد من البلدان العربية والأفريقية، والتي منها بالطبع دول المغرب. على أن العصر الجديد سيكون عصر التكتلات، حيث مثل ما خلفه آنذاك الاتحاد الأوروبي من نقاش حول التمدد ولم الشمل، وما صاحب هذا النموذج الأوروبي من نجاح ملموس، الا أنه وعلى الرغم من الجذور التاريخية لفكرة الوحدة المغربية بالمقارنة مع نظيرتها الأوروبية، فقد ظل هذا المشروع الوحدوي حبيس القرارات والتوصيات المتراكمة والمؤسسات والهياكل حبيسة التجميد، ورهينًا للتجاذب والتباينات السياسية بين النخب الحاكمة، ولم تستطع دول المغرب العربي الاستفادة من مقومات الوحدة التاريخية والجغرافية والثقافية المشتركة. متاريس في الطريق وعلى الرغم من الآمال العريضة التي وضعتها الشعوب المغاربية علي هذا الاتحاد، إلا أن معوقات كثيرة، حالت دون أخذه الزخم المرجو سياسيا، فقد شكلت الاتفاقيات الثنائية المنفردة عائقا كبيرا في وجه مشروع الوحدة المغاربية، وفي 12 يناير 1974 تم اعلان الجمهورية العربية الإسلامية في ما عرف ب (بيان جربة)، والذي سرعان ما تراجع عنه الرئيس بورقيبة بعد يومين فقط، نتيجة لضغوط مارستها الجزائر، كما جاء (اتفاق حاسي مسعود) بالجزائر في ديسمبر 1975 بين الجزائر وليبيا كخطوة نحو الوحدة، وتلاه بعد ذلك (معاهدة الإخاء والوفاق) في مارس من العام 1983 بين الجزائروتونس وانضمت إليها موريتانيا لاحقا في ديسمبر من ذات العام، كخطوة أيضا سارت في طريق الوحدة. وردا على هذا الاتحاد المغاربي تم التوقيع على (بيان وجدة) في أغشت عام 1984 كخطوة لإنشاء الاتحاد العربي الإفريقي بين المغرب وليبيا والذي أقدم الملك الحسن الثاني على فسخه من طرف واحد بعد عامين، وقام بتمزيقه في مشهد درامي على شاشات التلفزيون، رغم أن الاتفاقية أقرت من المؤسسات الدستورية في البلدين، ومن المفارقة في هذا الأمر، أنه في الشهر الذي أنشئ فيه الاتحاد كانت العلاقات بين تونس وليبيا مقطوعة في الفترة من 1985 إلى 1988، حيث ظلت العلاقات المغربية الجزائرية دائما اقرب إلى القطيعة والجفاء. وحالت الأحداث والأزمات السياسية الداخلية لدول الاتحاد دون تفعيل مؤسساته، بمثلما وقع من ما يشبه الحرب الأهلية بالجزائر، بالاضافة لتداعيات أزمة (لوكربي) على ليبيا حينها، لكن العامل الكبير تمثل في مشكل الصحراء الغربية، حينما طلب المغرب تجميد مؤسسات اتحاد المغرب العربي، وذلك أثناء رئاسة الجزائر له، وزاد من ذلك انحياز ليبيا إلى تجمع الساحل والصحراء نتيجة إحباطها من موقف دول المغرب العربي إزاء أزمة لوكربي،ونتيجة هذا الوضع بين دول الاتحاد المغاربي والعوائق السياسية التي جابهته، يرى بعض المختصين أن حركات التحرر الوطني المغاربية كانت تحمل وعيا سياسيا يفوق بكثير من حيث الرؤية الإستراتيجية وعي النخب المغاربية الحاكمة. العامل الاقتصادي: وعلى الصعيد الاقتصادي يبقي نجاح أي اتحاد اندماجي مرهونا بتحقيق تكامل اقتصادي بين أقطاره، لكن اتحاد المغرب العربي عرف غياب هذا التكامل وذلك رغم التنصيص على إنشاء سوق مغاربية مشتركة، وهذا ناتج عن غياب شبه كلي لسياسة وإستراتيجية مشتركة يمكن من خلالها تسخير الإمكانات المتاحة لدى بلدان الاتحاد، وكذلك غياب جهاز اقتصادي متخصص ضمن الأجهزة المكونة لهيكل الاتحاد. فالمعاهدة المنشئة للاتحاد المغاربي تتميز بطغيان الطابع السياسي في مقابل تهميش الدور الاقتصادي رغم أن التجارب أثبتت أن العامل الاقتصادي يبقى حجر الزاوية في نجاح أي تجربة اندماجية. وأدى نزوع الاقتصاديات المغاربية نحو الخارج إلى ضعف تكاملها داخليا وجهويا، الأمر الذي جعلها -بنيويا- غير قادرة على خلق نظام اقتصادي مشترك، وزاد الأمر تعقيدا اختلاف الأنماط الإنتاجية في البلدان المغاربية، وعزز هذا الخلل البنيوي في الاقتصاديات المغاربية السلوك الضيق الذي عبر عنه سعي كل دول الاتحاد للحصول على مزيد من المساعدات الأجنبية والأوروبية بالأساس، مما كرس من التبعية الاقتصادية لهذه الدول، دون إغفال أن المغرب وتونسوموريتانيا تبنت الانفتاح الاقتصادي، في حين تبنت كل من الجزائر وليبيا اقتصادا موجها، وهذا ماشكل أيضا عائقا كبيرا امام التكامل الاقتصادي لاتحاد المغرب العربي، على الرغم من كون التجارب العالمية وآراء المختصين أثبتت أن العامل الاقتصادي يظل الأساس الضروري لنجاح أي تجربة اندماج بين الدول في إطار اتحادات، وذلك بالضبط ما مثله بشكل صارخ (الاتحاد الأوروبي) الذي بني على أسس اقتصادية. إشكالات اجتماعية وعلى الصعيد الاجتماعي فهنالك تفاوت كبير من حيث عدد السكان بين دول المغرب العربي، كما جرت محاولات للتفرقة العرقية بين أبناء الوطن الواحد، وتجلى ذلك بوضوح في موقف بعض الدول الغربية الداعمة لبعض التيارات الأمازيغية المتشددة في كل من المغرب والجزائر، ويأخذ هذا الدعم في بعض الأحيان أبعادا سياسية وإعلامية ومادية، وهذه المحاولات قديمة، مثلها الباحثون الفرنسيون ومن ارتبط بهم خلال المرحلة الاستعمارية،حيث أخذوا يحاولون إرجاع سكان شمال إفريقيا القدامى من (الأمازيغ )أو (البربر) إلى أصول أوروبية من اجل ربط المنطقة بفرنسا، أو بغرض إحداث شرخ في صفوف الوحدة الوطنية. منح الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية: ونظرا للتوتر الذي يسود العلاقات بين دولتي المغرب والجزائر بسبب مشكلة الصحراء، فمن المعلوم أن المغرب تقدم بمقترح منح الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية وهو ما يعني الاستعداد المبدئي للتنازل عن صلاحيات واسعة لفائدة الصحراويين لإدارة شؤونهم المحلية وهي صيغة قريبة من مطلب الاستقلال، لكنها في ذات الوقت بعيدة عن مطلب الانفصال، وهي ستحفظ ماء الوجه للجميع لأن نظام الحكم الذاتي يتجاوز مطلب الإدماج البسيط الذي كان يرمي إليه المغرب، كما يتجاوز مطلب الانفصال والاستقلال النهائي الذي تتمسك به جبهة (البوليساريو) المدعومة من الجزائر، وبذا فإن التحولات في المنطقة تفرض البحث عن آلية لتفعيل الاتحاد ومن أهمها أحداث الربيع العربي التي شهدتها المنطقة، ونتج عنها سقوط نظام معمر القذافي الذي كان من أبرز داعمي أطروحة الانفصال في الجنوب المغربي، وبروز قوى سياسية جديدة مستعدة للتفاعل مع استحقاقات الاندماج المغاربي بنفس إيجابي، بالإضافة إلى التحولات الجارية في تونس والتي أفرزت نخبة سياسية جديدة متحمسة لخيار الاتحاد المغاربي، رغم أن استحقاقات المرحلة الانتقالية مازالت تعوق مسيرة التحول السياسي في تونس. وبالإضافة إلى أن التكتلات الكبرى أصبحت من سمات الاندماج في العالم المعاصر الذي تتحكم فيه آليات العولمة وانخراط دول العالم في سياق اقتصادي واحد، فقد بات التكتل ضرورة حتمية ومن مستلزمات الانخراط الفعال في النظام الاقتصادي العالمي. غياب الديمقراطية وتبعية الاقتصاد الأوروبي ويرى الدكتور ديدي ولد السالك رئيس المركز المغاربي للدراسات الإستراتيجية والأستاذ الجامعي أن ثلاثة أسباب أعاقت تاريخيا قيام الاتحاد المغاربي أولها غياب الديمقراطية المؤسسية لأن هذه الأنظمة تحكم بشكل سلطوي قوي ولا علاقة لها بالمواطن وهمومه وبالتالي عندما يحصل خلاف فيما بينها يتعطل هذا المشروع، بينما لو كان هناك الحد الأدنى من الديموقراطية المؤسسية، لاستمر الاتحاد حتى في حال وجود أي خلاف طارئ، والسبب الثاني هو أزمة الصحراء الغربية كصراع بين دولتين هما الأكبر في المنطقة هما الجزائر والمغرب، واللتان تتنافسان في إطار صراع المغرب مدفوعتين بإرث تاريخي في المنطقة، كما يدفع الجزائر دورها النضالي التحرري، وبالتالي والحديث مازال للدكتور ديدي -ما لم يسوى مشكل الصحراء بشكل نهائي أو تتغير بنية النظام السياسي الأمني في الجزائر فلا أفق قريب لمسيرة الاتحاد. أما السبب الثالث كما قال من تلك الأسباب المعيقة للاتحاد يتمثل في حالة التخلف الاقتصادي، اذ تعتبر اقتصاديات الدول المغاربية متخلفة وتابعة لاقتصاديات الدول الأوروبية، لأنها لا تملك منتجات للتبادل فيما بينها، وبالتالي فإنها ظلت تتبع بشكل مطلق للاقتصاد الأوروبي، والدليل على ذلك أن مبادلاتها مع الاتحاد الأوروبي تتجاوز (ستة وسبعين في المئة)، بينما مبادلاتها مع دول الاتحاد المغاربي لا تصل الى (ثلاثة في المئة)، ويعود السبب في ذلك إلى أن هذه الدول وخلال مسيرة الخمسين عاما الأخيرة لم تستطع أن تنهض باقتصادها لتكون قادرة على تصدير منتجاتها والمنافسة في الأسواق الدولية وخلق نسيج اقتصادي قابل للتبادل فيما بينها رغم ما تملكه هذه الدول من ثروات متنوعة، وهو أمر أبقى علاقات هذه البلدان في حالة علاقات عمودية مع دول الاتحاد الأوروبي، ولم تتحول إلى علاقات أفقية مغاربية أي جنوب جنوب. ثلاثية (الأمن) و(الهجرة) و(التصحر) وفي ظل التحديات الكبيرة التي تواجه المنطقة في الأمن والهجرة والتصحر وهي حالة تتطلب تضافر الجهود. وعن كيفية عودة التنسيق بين دول اتحاد المغرب لمواجهة هذه الصعوبات حيث تواجه هذه البلدان تحديات كبيرة تتعلق بالأمن- "الهجرة " وعدم الاستقرار السياسي، لكن ما ينبغي الاشارة إليه هو أن هذه التحديات الكبيرة التي تشغل كل نظام على حدة يمكن أن تتحول إلى (فرصة) للتكامل والتنسيق لرفع هذه التحديات، خاصة أن هذه البلدان غير قادرة بشكل منفرد على مواجهة هذه التحديات وهو ما يتطلب العمل بشكل جماعي وهو السبيل الوحيد الذي يمكن عبره مواجهة هذه المخاطر وبالنتيجة يسرع من خيارات الاندماج بين هذه البلدان. تأثيرات (الربيع العربي وأدت أحداث الربيع العربي لتقويض نظام الرئيس الليبي معمر القذافي وهذه الأحداث جعلت كلا من تونس وليبيا تعيش في حالة عدم استقرار سياسي مع اختلاف كبير في الأوضاع، فتونس عرفت تحولا ديمقراطيا ناجحا نسبيا لكن مخاض الانتقال أدى إلى عدم الاستقرار السياسي. وبالمقابل أدى سقوط نظام القذافي في ليبيا إلى انهيار للدولة وتحولها إلى ميليشيات متصارعة ومنظمات إرهابية وتحويل ليبيا إلى دولة (فاشلة)، وهذه المعطيات المتعلقة بالوضع في كل من تونس وليبيا توثر بشكل كبير على أي تحريك للملف المغاربي وعلي مسيرته وبالنتيجة سيبقى الاتحاد معطلا ما لم يعد الاستقرار إلى تونس وتعد الدولة إلى ليبيا.