اشتدت حاجة سكان مدينة الفلوجة العراقية إلى الماء والغذاء مع تَواصُل القتال، ما دفع قطاعاً منهم إلى الفرار ليعتقل الجيش مئاتٍ اشتباهاً في تأييدهم «داعش». ويحتل التنظيم الإرهابي الفلوجة الواقعة غربيّ بغداد منذ مطلع 2014. فيما بدأ الهجوم الحكومي الأخير لاستعادتها قبل 10 أيام بدعمٍ من ميليشيات «الحشد الشعبي» المسنودة إيرانياً. وتقدَّمت القوات المهاجِمة أمس إلى قرية الصقلاوية شماليّ المدينة مُقترِبةً من معقل التنظيم. وتوقَّعت مصادر عسكرية السيطرة على القرية «في غضون الساعات المقبلة». وتمثِّل معركة استعادة المدينة بدايةً لما يُتوقَّع أن تكون واحدةً من أكبر المعارك على الإطلاق ضد «داعش» الذي يحتل أيضاً مدينة الموصل الشمالية. وتقدَّمت القوات الحكومية بأعدادٍ كبيرةٍ إلى حدود الفلوجة في ال 30 من مايو المنصرم. وتدفقت القوات على مناطق ريفية في الضواحي الجنوبية، لكنها لم تصل إلى المنطقة السكنية الرئيسة. وستتيح استعادة المدينة سيطرة الحكومة على المراكز السكنية الرئيسة في وادي نهر الفرات الخصب غربي العاصمة للمرة الأولى منذ أكثر من عامين. لكن الهجوم يمثل أيضاً اختباراً لقدرة بغداد على استعادة أراضٍ مع حماية المدنيين في آنٍ واحد. ويُعتقَد أن أغلب سكان الفلوجة فرّوا خلال حصارٍ مستمرٍ منذ 6 أشهر. لكن يُعتقَد أيضاً أن 50 ألف شخصٍ محاصَرون داخلها. وأمس الأول؛ دعا رئيس الوزراء، حيدر العبادي، إلى توقُّف الهجوم بسبب مخاوف على سلامة عشرات الآلاف من المحاصَرين. وأبدى سكان فرّوا ولجأوا إلى مدرسة قروية قريبة ارتياحهم بهروبهم. لكنهم يخشون الآن على مئات الرجال والصبية الذين احتجزهم الجيش. واعتبر مهدي فياض (54 عاماً) أن على السلطات عدم التعامل مع السكان الفارين باعتبارهم من «داعش». وذكر فياض، الذي بُتِرَت ساقه لإصابته بداء السكري في ظل حكم التنظيم الإرهابي، أنه فرَّ مع 11 من أفراد أسرته بعد بدء الهجوم الحكومي. وساعده أقاربه في السير على عكازين. لكن ما إن وصلت المجموعة إلى خطوط الجيش؛ حتى تم الفصل بين أفرادها واحتجاز بعضهم. وبات فياض عاجزاً عن إيجاد من يساعده على المشي. وقال وهو يقف بمساعدة عكازين باليين وضعهما تحت إبطيه «أنا فقدت ساقاً، وأطلب من أهل الخير ألا يعاملوننا مثلما عاملنا المقاتلون المتطرفون». وتقول الحكومة إنها لا تملك خياراً سوى فحص حالات الرجال والصبية الفارين لمنع المتطرفين من التسلل بين صفوف المدنيين. وهي تؤكد استكمالها إجراءات الفحص بأسرع ما يمكن وبأقصى رعاية ممكنة للمحتجزين في ساحة المعركة. وأفادت الأممالمتحدة، الثلاثاء، باحتجاز السلطات نحو 500 رجل وصبي فوق سن 12 عاماً من الفلوجة في عملية فحص تستغرق ما يصل إلى 7 أيام. وأشارت الإفادة الأممية إلى إطلاق سراح حوالي 30 من المحتجزين يوم الإثنين. والأوضاع سيئة في مراكز الاحتجاز في محافظة الأنبار التي تتبعُها المدينة. والشهر الماضي؛ تحدثت منظمة العفو الدولية عن صبيةٍ في سن ال 15 محتجزين هناك في ظروف غير إنسانية ومهينة. وتطلَّع فياض إلى الإفراج عن أقاربه المحتجزين بسرعة حتى يمكنهم جميعاً مغادرة المدرسة التي تؤويهم في قرية الكرمة الواقعة شرقيّ المدينة. وتستخدم السلطات المدرسة في إيواء 1500 لاجئ. وقال فياض «أرجو أن يُعجِّل القادة الأمنيون بالفحص الأمني لأقاربي حتى يمكننا الانتقال إلى مناطق أخرى فيها خدمات وألا نبقى هنا مكدسين مع قليلٍ من الطعام والدواء». والفلوجة، التي شهِدَت القوات الأمريكية فيها أكبر معاركها عقب اجتياح عام 2003، هي أقرب معاقل «داعش» لبغداد بواقع ساعةٍ بالسيارة. وهي أيضا أول مدينةٍ عراقيةٍ رفع عليها التنظيم علَمه في 2014 قبل أن يجتاح مناطق أخرى في الأشهر التالية. وتواجه الحكومة مهمة مزدوجة تتمثل في طرد المتطرفين وفي الوقت نفسه استمالة سكان المدينة وغالبيتهم الساحقة من السنة. وذكرت فصائل شيعية تُعاوِن الجيش في هجومه أنها لن تشارك سوى في التطويق لتفادي نشر التوترات الطائفية. وبدأ هذا الحصار الحكومي قبل نصف عام، وتدهور الوضع الإنساني منذ ذلك الحين. وبعدما بدأ الهجوم؛ حذرت الأممالمتحدة من أن عشرات الآلاف المحاصَرين ينقصهم الغذاء ومياه الشرب والأدوية. وتتهم الأممالمتحدة المتطرفين باستغلال المدنيين كدروع بشرية مثلما حدث في مواقع عراقية أخرى. ولاحظت الأممالمتحدة أن 20 ألف طفلٍ على الأقل مُحاصَرين داخل الفلوجة ويواجهون مخاطر التجنيد الإجباري أو الانفصال عن أسرهم. وفي ملجأ قرية الكرمة القريبة؛ ذكر بعض السكان الهاربين أن المتشددين فصلوهم إجبارياً عن أقاربهم. وشَهِدت سيدةٌ تُدعَى أم سلام (40 عاماً) كانت تحتضن رضيعاً بأن مقاتلي «داعش» استخدموا الرجال في قريتها كدروع بشرية مع اقتراب الجيش منهم الأسبوع الماضي. وتابعت أنهم نقلوها هي وأسرتها إلى منزل آخر في القرية، مؤكدةً «ظللنا محاصرين في البيت 5 أيام بلا طعام». وتم إطلاق سراحهم عندما سيطرت القوات الحكومية على المنطقة. وأفاد حسن فرحان صالح، وهو ناظر مدرسة عمره 45 عاماً، بأنه «مع اشتداد حدة نقص السلع في الأشهر الأخيرة؛ ضغط المتشددون على السكان لتزويدهم بالمال والطعام». وأوضح «طلبوا منتجات من المزارعين وماشية من أصحاب القطعان». وهزَّ رجالٌ أكبر سنَّاً كانوا يجلسون مع صالح داخل مدرسة الكرمة رؤوسهم إقراراً بصحة ما يقول. وأضاف الرجل أن المتشددين أخذوا منه ذات مرة 4000 دولار كان سيشتري بها سيارةً مستعملة. وقد يحدد هجوم الفلوجة مصير رئيس الوزراء الذي تشهد حكومته اضطراباتٍ منذ أشهر نتيجة استمرار الجمود السياسي. ووعد العبادي مراراً بأن «المدنيين لن يمسهم سوء». أما مصير من أخذهم «داعش» فأكثر غموضاً من مصير من احتجزتهم السلطات. ولا تعرف أم سالم ما إذا كانت ستلتقي مرةً أخرى بأقاربها من الرجال؛ قائلةً «لا نعرف إن كانوا أحياءً أو أمواتاً».