يستيقظ ال 15 من مايو من كل عام، ينهض من سرير التاريخ النائم، ويفرك عينيه ليوقظ موعداً جديداً ل «النكبة» في صباح لم يحتفِ الفلسطينيون فيه برائحة قهوتهم المحمَّصة على مهل، ولم يخبزوا في «الطابونة» رغيفهم اليومي، ولم يوقظوا فجرهم الغافي، وهم يتسكعون في شوارعهم في يوم لم تكن فيه الشمس مفتاحاً للصباح المقبل من تلال السنديان. كان الموعد قاسياً بحجم حروف هذه الكلمة «نكبة»، مرتبطاً بمأساة إنسانية، وتشريد، وتهجير شعب بأكمله، فقدَ في هذا الموعد عناوينه، ومعالم حضارته في سلسلة احتلال حقيقي للأرض والإنسان، ذاك الوقت الذي دفعنا فيه ثمن اللجوء، وتوارثنا لغة المجازر والفظائع، وهدم القرى والمدن، ومحو أسمائها من الجغرافية العربية. كان عام 1948م قاسياً بما يكفي لأن ينهي مواعيد الانتصار، وأن «يلفِّق» خرائط جديدة لدولة إسرائيل المحتلة على حساب كل ما يستحق الحياة، ويسحق ذاكرة الفلسطيني، ليظل معلَّقاً بين خيوط الحضور والغياب والنسيان، هذا الإنسان الذي غربت شمسه، وهجره ظله، وتناسته مواعيد الياسمين، وظل واقفاً يحرس قطرة الضوء البعيدة. كان التاريخ قاسياً بما يكفي لأن ينهب أغصان الزيتون، ويشرِّد ذرات التراب، وشواطئ البحر، ويسرق مفاتيح البيوت، يكفي لأن يأخذ الفلسطيني إلى دوامة الانهيارات المتتالية، والسقوط الإنساني، ومسلسل التغريب والتهجير، الذي دام لأكثر من 60 عاماً، وهو يسكب الظل في فناجين القهوة، ويرمي في نافورة روما حكايات التمنِّي، ويطلب هدنة واحدة تكفي للحياة، والخروج من الموت المؤجَّل، والسجن الكبير في غزة، من مهاترات أروقة السياسة، والقتل في الضفة الغربية، من ظلال الذكريات الجائرة في وجع المعابر الشائكة، وحلم عودة اللاجئين المعلَّقين على ضفاف الذاكرة العربية في انتظار هطول مبتكر، وانفراجة تنفلت كحمامة سلام من بين يدي صياد شرس ومتمرس لا يعرف سوى لغة الرصاص والبنادق، في انتظار لحظة انسكاب الارتياح من عنق شمعة، جاءت لتضيء ما انطفأ من تجاعيد حياة الفلسطيني في غزة، وهو يموت منسياً بلا ماء، أو كهرباء، وبلا مأوى، أو عملة فارة من عنق زجاجة، كانت أضيق من معابر الهروب الكبير إلى خارج أسوارنا العربية. لو كان أبي، رحمه الله، حياً لسألني عن أسباب العدوى، والتكرار في سيناريو نكبات تاريخنا، ولسألني عن أبطال القصص المبتكرة لافتعال التشابه في حاضر ومستقبل الإنسان العربي، ونكباته، وتهجير أوطان عربية بأكملها، وتصدير نكباتنا إلى خارج أسوار حلمنا الكبير. لو كان التاريخ حياً ومنصفاً لاعترف بأنه يعيد نفسه بطرق مختلفة، وأنه يعلن سلطته وسيادته، ويستحضر وجود صُنَّاع النكبات، وتجار الأزمات، وحكايات النسيان لفعل الاقتلاع من الجذور، ليظل الإنسان العربي متطلعاً إلى سقف واحد يقيه من مطر الرصاص، ليظل واعياً ومتوجساً من ضربات الشمس العاتية، وتعددية المظلات الدولية، التي لم تقِ رؤوسنا من ويلات السقوط والتهجير. إنها ليست «نكبة»، وإنما سلسلة نكبات توالت لتشمل مواقيت السكون، ورسائل الصخب المفتعلة، والطفولة المشردة، والخيام التي لاحقتنا وسكنت مفاصل عمرنا الممتد، وشملتنا بخريف عربي، أصبح أقسى وأعنف بفعل تطور آلة القتل وصناعة الموت، والتفنن في خلق مبررات لكل نكبة، وكل انهيار مع الفارق في معطيات تعددية الاختلاف، وقصصها، ونتائجها الأحادية، التي تعيد علينا دروسها الرتيبة على سبورة الانكسارات المتتالية، التي لا ينقشع غبارها ولكن يبقى لنا أمل وحيد في الأعالي، في تطلعنا نحو السماء وعدالة الله، التي لا يخيب طالبها.