على الرغم من أهميتها وقيمتها المحورية في الإسلام فإن أداء الصلاة لا يصح أن يكون سببا في إحداث فوضى أو إرباك للهدوء الاجتماعي، ذلك أن التوجيه النبوي على صاحبه الصلاة والسلام ينادي المتأخرين عنها بالمشي بسكينة ووقار وما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. ولا يبدو هذا مشهدا منعزلا فإن تأمل توجيهات الإسلام تصب في خلق السلم الاجتماعي والاهتمام به على كافة الأصعدة وإن التوجيه المنطلق بمراعاة ذلك في حق الصلاة بل وفي حالة التأخر عنها له دلالته التي لا تخفى. فمن ذلك مثلا النهي أن يشير أحدنا للآخر بحديدة، ولنا أن نقارن تلك الحديدة الصغيرة بالحديدة الكبيرة (السيارة) وكيف يغيب السلم المروري عن شوارعنا؟ بل وحتى على المستوى النفسي فإن سمة (حسن الظن) واحدة من السمات الأخلاقية المكرسة للسلم الاجتماعي حتى في أحلك الظروف وأشدها وقعا على النفوس حين تضطرب الرؤيا ويسود الضباب الفكر والخاطر يقول الله سبحانه «لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين»، إن حسن الظن وما يحدثه من استقرار في الفكر والخاطر يقود حتما للتشخيص الصحيح للمشكلات حين يتجاوز الفرد الرؤى الضيقة المنبثقة من عوامل نفسية تحتكم إلى دواعٍ صاخبة. ومن ذلك أيضا التوجيه بالهدوء والتركيز بالهدف حتى مع خراب الكون «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها»، إن الغرس عملية شعارها الهدوء والأمل فلنتأمل. هذا وإن الوطن الذي يدين بالإسلام لهو أحوج لفن صناعة الهدوء حين يقارب مشكلاته وحراكه في شتى الأنحاء. غير أن ما نلمحه هو العكس حيث صناعة القلق وبث روح التوتر والمسارعة للحسم والمفاصلة عندما يبدو أن للتصالح مساحة تمتص أي غضب وتجافي كل جفاء، لكنه الاحتفال بصناعة أبطال من وهم يرقصون على جراح لا يحسون بألمها، ويخلقون أجواء لا يتنفسون هواءها، ويربكون المجتمع بشائعات يهربون من أثرها، وليس شرطا أن يتعمد أقوام هذه الفوضى وتلك التوترات الطاردة للهدوء والسلم الاجتماعيين بل هي طريقة تفكير يقودها وعي خاطئ عند معالجة الأمور، وعي يخلق المعادلة القاتلة حين تألف مكانا ثم تخافه! وإذا أردنا أن نضرب أمثلة من واقعنا، فهذا المجال الخدمي يتحدث عن نفسه بوضوح فما حصل الأسبوع الفائت من تدافع وفوضى وقلق أحدثه تدفق المثبتين والمثبتات حديثا لإجراء الفحوصات الطبية، لقد كان مظهرا غير حضاري بتاتا غاب عنه هدوء النفس وهدوء المظهر وحضر الضجيج والذعر، كل ذلك كان بسبب أن المؤسسات المقدمة للخدمة والتي أرسلتهم أفواجا كانت في غيبوبة عن الواقع وفي غفلة عن قراءة المحيط يدعم ذلك بيروقراطية عقيمة تعمق الجراح، لقد جاء هؤلاء رجالا ونساء وفي خواطرهم أنهم إن لم يحضروا النتائج اليوم أو غدا سيحرمون من الوظيفة، هكذا هو التفنن في صناعة الخوف والقلق من قبل الجهات الحكومية وللصورة أمثلة أخرى لا يتسع المقام لذكرها، إن الوطن بحاجة لتقوية جبهته الداخلية وزرع الطمأنينة في نفوس الناس خاصة فيما يتعلق بمسألة الحقوق، وإن هذه النزعة للقسوة في التعاطي مع الجمهور وخلق الارتباك بحجة كثرة الأعداد لهي دليل فشل لا تليق بمسؤول مؤتمن، ويجري هذا الأمر على جميع القطاعات الخدمية. وفي مقابل ذلك وفي نفس المجال الخدمي لكن في الاتجاه المعاكس فإن تشنيعا وضجيجا تقوده العامة ضد المسؤولين المجتهدين ليصبح كل رأي فسادا وكل أداء خيانة، ليغيب التثبت وحسن الظن والتساؤلات التي ترفع الوعي بحقائق الأمور وما يستتر خلفها، وهكذا تختلط الوقائع بالتصورات لتغيب الحقيقة في جو مشحون يشتاق للهدوء ويحن للثقة ولخشوع الأرواح في محراب الطمأنينة. أما في المجال الفكري والثقافي فإن الضوضاء الحاصلة من صراخ الحرف وضجيج الكلمة وما يفعله في نفس المتلقي من شحن وتحفز، أمر لا يحتاج إلى دليل، والهدوء المقصود هنا هو هدوء في المنهج لا الأدوات ذلك أن هناك مساحة ضرورية للتيقظ وللحركة النشطة في كل الاتجاهات الفكرية، إذاً الهدوء لا يرادف النوم والكسل، بل هي -كما أشرت- حالة نفسية مصاحبة للحراك تضبط الإيقاع وترشده. لقد أصبحت التجمعات الثقافية والحوارات الفكرية بؤرة ترسخ غياب الهدوء، وأصبحت الآراء الشاذة التي تصيب المجتمع في ثوابته آلة لخلق الضجيج وتغييب السلم المعرفي الذي لن يتقن في تلك الأجواء تحديد الأولويات التي يحتاجها المجتمع. إن الحياة ليست دوما محمودة فقد تكون حياة نباتية بلا روح واعية، إن الحديث أصبح متقدما ليروم جودة الحياة كمعيار أعلى وأحسن لذا فإن الفرح بهذا الكم من الحراك دون التنبه لتفاصيله الصغيرة والكبيرة يظل أمرا مظنة خلل وإخفاق.