عندما تكون وزيراً، وليس لديك أي «غرام مرضي مزمن» برؤية ضوء الفلاشات، وسماع صوتها، قد ترغب، ولو لحين، أن تعمل بهدوء وصمت بعيداً عن الضوضاء، والأضواء، و»جلبة الناس»، وأنظارهم. عندئذٍ، كل الحقائب الوزارية قد تكون مناسبة لك. لكن، هناك حقيبة وزارية واحدة، وهي وزارة الخارجية، لا تُوفِّر لك أي شيءٍ من التالي: لا توفر لك خصوصية الانزواء، والعمل في الظل. لا توفر لك الاستقرار المكاني والزمني. لا توفر لك الاستقلالية التامة في صناعة القرار، أو حتى التعبير عنه. لا توفر لك مجالاً واسعاً من التجربة على عباد الله، وأريحية ارتكاب الأخطاء. لا توفر لك الالتفات إلى حياتك الشخصية. لذلك، تجد أن وزير الخارجية، يستطيع أن يلبس قبعة أي وزير آخر، ولكن لا يستطيع أي وزير آخر أن يلبس قبعته، ومن هنا أتت الصورة النمطية السامية لوزير الخارجية لدى الناس، فالمجتبى ليكون وزيراً للخارجية، يجب أن يكون ذا معلومات واسعة، ومدارك كبيرة، وثقافة متنوعة، ويتفاعل سياسياً بقدر ما لدولته من ملفات خارجية، وعلاقات دولية، لذلك يُعد وزير الخارجية سفيرَ حكومته الدائم للعالم الخارجي، ونجمها الأول في المحافل الدولية، ومتحدثها الرسمي في كل وقت ومكان. ونطاق عمل وزير الخارجية واسع في داخل الدولة وخارجها، لذا تجد أن لوزارته دوائر مشتركة ومتداخلة مع كثير من الدوائر الحكومية الأخرى، وأكبر دائرتين رماديتين يتقاطع عمل وزير الخارجية معهما، هما الإعلام، والاستخبارات، فيجمع دوره مهام هاتين المؤسستين في نظام فريد، إذ إنه من الاستخبارات يجمع معلوماته السرية، ويتساوى مع الإعلامي في الإفصاح عن معلوماته، ولكن بما يخدم مصالح دولته. وبما أن شخصية الفرد تُلقي بظلالها على العمل الذي يمارسه، والعكس صحيح، فإن الاستعداد الطبيعي لممارسة دور وزير الخارجية هو أمر حيوي للغاية، فوزير الخارجية سيفشل مع مرتبة الشرف، إن لم يكن صاحب نفس توَّاقة، وروح متحدية، تألف التغيُّرات، وتواجه الملمَّات، وتستأنس بتجاوز العقبات. ولطبيعة العمل هذه، قد يُطلب من وزير الخارجية التجول في رحاب السماء لزيارة الدول أكثر من بقائه على سطح الأرض، ولذا وجب عليه أن يكون صاحب لياقة بدنية عالية، تعينه على السفر الطويل، وساعة بيولوجية متينة، تمكِّنه من تجاوز تقلبات الليل والنهار، والنوم والاستيقاظ، ويكفي أن نعرف أنه رغم حدود الزمان والمكان الثابتة، إلا أنه ليس له مقر إقامة دائم، وإنما في جهة ما من الكرة الأرضية، تحديدها متقلِّبٌ حسب الوقت الذي تريده فيه. كل ما سبق يمكن أن يُعمَّم على منصب وزير الخارجية في أي دولة كانت، لكن عندما تكون الدولة هي المملكة الرائدة إقليمياً والمهمة دولياً، فإن المهمة ستكون مضاعفة، لذلك كان السؤال المتداول في كل الأوساط قبل أن يستقيل الأمير سعود الفيصل، رحمه الله، هو حول هوية الشخص الذي «سيتجشم» الحمل الثقيل من بعده؟! فأن تخلِف رجل دولةٍ، كان قد ملأ السمع والبصر طوال أربعين عاماً مثل الأمير سعود الفيصل، فهو لعمري المأزق التاريخي، الذي يتمنى ألا يلقاه أي شخص في مسيرته الوظيفية، لأن النخب والجماهير على حد سواء، ستقوم مباشرة وبتلقائية بمقارنة الخلف بالسلف، وإن كان يستحق أن يقال عنه إنه خير خلف لخير سلف أم لا! ورغم أن عادل الجبير، كان ذا أداء مميز عندما كان المتحدث الرسمي لسفارة المملكة في واشنطن، وواصل على نفس المنوال عندما اختير سفيراً في واشنطن، إلا أنه كشف عن قدرات استثنائية عندما شغل منصب وزير الخارجية، إذ بدا أنه مستعد طبيعياً ب «كاريزما» جاذبة، وذكاء متَّقد، و»توطئة علمية مكينة»، إضافة إلى باع طويل من الخبرات المتراكمة بصفته ديبلوماسياً محترفاً. لقد وُفِّق المقام السامي في اختيار الجبير في وقت تخوض فيه المملكة حرباً ساخنة في اليمن، وحرباً باردة مع إيران، إلى جانب أنها طرف مهم في ملفات ساخنة في المنطقة، فكان أحسنَ مَنْ يشرح سياستها، ويدافع عنها في المحافل الدولية المتنوعة. وهذا ما جعل رضا الجماهير غايةً أدركها الجبير، فمن خلال استطلاعي الشخصي عبر المجالس العلمية والشعبية، رأيت أن الجميع يثني على أداء الجبير اللافت، وتعززت ثقتهم بوجود عناصر مؤهلة في الجهاز الديبلوماسي السعودي، متى ما مُنِحوا الفرصة والثقة. إن من الدروس التطبيقية، التي سطَّرها الجبير: تصحيح المعنى «المعوج» للديبلوماسية في أذهان بعضهم، فإذا حصرت الديبلوماسية في الإسراف في لبس الخواتم، وجرِّ الثياب، و»تصعير» الخد للناس عند الحديث، و»الخيلاء» في المشي، وتفخيم الصوت، والتثاقل في الالتفات، فإنك ستجد أن هناك أصحاب مهن يقاسمون الديبلوماسي في هذه الأشياء، مثل مصففي الشعر، و»المباشرين» في المطاعم، وعارضي الأزياء، وحتى المومياءات الفرعونية. بيد أن الديبلوماسي الحقيقي هو مَنْ يكون، أو يسعى إلى أن يكون متميزاً علمياً، و»خيراً مقصدياً»، وخبيراً وظيفياً، أو بعبارة أخرى، إن أردتم: كما فعل الجبير تماماً. أما باقي الأمور فهي إكسسوارات شكلية، ورتوش تزينية، إن توفرت فلا بأس بها، وإن لم تتوفر فلا ضير البتة. عندما تقرأ مسيرة الجبير، تشعر بأنها، رغم كل صعوباتها، قصة ذات خاتمة سعيدة، والنجاحات مع الناس تتكرر بصور مختلفة، وهذا درس لكل ديبلوماسي: بما أن عادل الجبير فعلها، ففي إمكانك أن تفعلها، استعد فقط، وستأتي الفرصة. زملاء المهنة يتطلعون إلى الوزير الجبير، وفريقه بكثير من التفاؤل، لكونه عارفاً باحتياجاتهم، ومواطن فرحهم، وشقائهم، للتطوير إلى الأفضل.