لست معنياً هنا بالموافقة على فكرة الشعار من عدمها لكنني سأحاول البحث في دلالته وأثره على الواقع. في مرحلة معالي الدكتور حمد المانع كان الشعار (المعاملة الحسنة لا تحتاج إلى إمكانيات) وفترة معاليه برمتها كانت تتبع المدرسة الرومانسية التي لا تلتفت للواقع بل تحلق في سماء الأحلام والترقب لمشاريع لم تر النور بغض النظر عن تأييدها أو رفضها. وقد جاء الشعار أعلاه ليكرس هذه الرومانسية بينما الحقيقة تقول إنه لمعاملة المريض بطريقة حسنة نحتاج إلى كثير من الإمكانات. وجاءت مرحلة معالي الدكتور عبدالله الربيعة لتتبع المدرسة الواقعية عبر شعار (المريض أولا) وكان هذا شعارا لاستراتيجية الوزارة لمدة عشر سنين تنتهي في 1440ه. جاء من أشار على معالي المهندس خالد الفالح لتغيير الشعار إلى (المواطن أولا). عند تأمل تفكير من اقترح الشعار الأخير تجده مارس نفس طريقة التفكير التنموي التي تبدأ كبيرة ثم تتضاءل رويداً رويداً استجابة لضغط الواقع. كيف ذلك؟ سنرى.. المريض أولا كان شعارا للاستراتيجية المؤطرة بوقت محدد لمعالجة خلل في الواقع الطبي المهني لم يكن يستصحب المريض في جميع حالاته وفي أماكن وجوده؛ لذلك نشأت إدارات مختصة مثل الأسرة واليوم الواحد والطب المنزلي وغيرها، وللحق فقد أنقذت الواقع من سلبيات كثيرة وأسهمت في رفع كفاءة الأداء بشكل لاحظه العاملون في الميدان. إن الانتقال إلى شعار آخر بينما مازالت الاستراتيجية تعمل في وقتها ولم يعلن عن تغييرها أمر يدعو إلى الاستفهام. تعاني الصحة ومؤسسات أخرى في البلد من هذا الإشكال التنموي المتمثل في غياب ثقافة (التأسيس) والبدء من الأسفل إلى الأعلى والصبر الجميل والتخطيط بعيد المدى وتحضر ممارسات الإسقاط المظلي لنجد أنفسنا نراوح بين المواطن أولا والمريض أولا على مستوى الشعارات ولينعكس ذلك على المشاريع الصحية التي تبدأ واعدة ضخمة طموحة ثم ما تلبث أن تتلاشى وتضمحل شيئا فشيئا، فهذا مستشفى يخطط له ويعلن للناس أن يكون تخصصياً ليجده المواطنون في نهاية الأمر وقرب التشغيل مستشفى عاماً لا يلبي وعدا طال انتظاره. بل ويتحقق معه هدر مهول لتجهيزات متقدمة تصدأ وتعطب لعدم تشغيلها من كوادر متخصصة. يحدث ذلك لأسباب منها الحضور العاطفي للمجتمع وطبيعة العلاقة بين المسؤول والناس وغياب المعايير التي تحيد تلك العاطفة وتستحضر العقلانية الصارمة في تحديد الحد الأدنى لنتمكن من معرفة المثل الأعلى في الخدمة، وما بين ذلك من معايير السلامة والجودة ومأمونية الطواقم الطبية التي نجد صعوبة كبيرة في إيجادها تعليما وتأهيلاً للمواطنين وتعاقداً من غير المواطنين. ومن الأسباب المركزية المغرقة في المثالية التي لا تفهم أو لا تتفهم أثر الجغرافيا على الخدمة الطبية؛ لذا تجد تعميما يخص خدمة جديدة مثلا فضفاضا على منطقة ويضيق عن منطقة أخرى. ومن ذلك تكريس التشظي الخدمي، ففي وطن واحد تقدم سبع جهات خدمة طبية ولا تتكامل مع بعضها إلا في حدود ضيقة ويجمع بينها مجلس خدمات صحية استشاري في تكوينه وغير ملزم، لتحضر المنافسة والتفاخر أحيانا على حساب الشراكة. إن الحاجة ماسة جدا لتفعيل فوري للشراكة مع الجهات المتفوقة وبطرق إبداعية تخدم المرضى. ومن الأسباب تلميع الإسمنت على حساب الإنسان، إن صناعة الكوادر الطبية المؤهلة بمختلف تخصصاتها طريق وعر لا تبدو وزارة التعليم مدركة لواقعها الذي يضخ بمخرجات أضحت تمثل عبئاً على واقع مبعثر بين نظام خدمة قديم وغير مواكب وبين هيئة صحية تعمل مستقلة متعالية على الواقع. إن أكبر دليل على هذا الارتباك وغياب فكر التأسيس الهادئ والواقعي هو هذا الانكشاف الخدمي المصاحب للدورات الاقتصادية ليصبح الإنفاق الضخم سترا مؤقتا على عيوب أصيلة في التكوين المهني والإداري. إنه لا خيار أمامنا مهما كانت النية تجاه الصحة مستقبلا إلا الرجوع للخلف قليلا وتحسس مواقع الأقدام لضمان الثبات أولا ثم النمو ثانيا، عدا ذلك لا تبدو الأمور بخير. دعاء الختام.. رحم الله كاتب «الشرق» الأستاذ محمد البريدي، وكتبه الله في عليين، وجبر مصاب ذويه..