ويسألني زملائي عن المقالين السابقين ماذا أردت أن أقول؟ فكان جوابي بوضوح أن الخلل الاجتماعي في التكوين والتعليم والتفكير والسلوك تسرب إلى بيئة الخدمة الطبية دون وجود «غشاء خلوي» يفرز الحسن من السيئ واللائق من ضده فكان أن تطبع المجال المفترض به المعيار المهني بمجال يعج بالسلوكيات ذات النزعة الشخصية إدارياً ومهنياً. ومن هنا جاء تعبيري في العنوان بالورطة البشرية الذي أجده مناسباً عندما يصبح كل عامل يدخل مجال الخدمة عالة وعبئاً على الخدمة لا إضافة جيدة إليها. السبب الأساس الذي تعود إليه كل هذه الإشكالات ونتائجها هو طريقتنا في التعاطي مع مفهوم التنمية البشرية والتخطيط الصحيح له وفي الصحة تحديداً فإن القلة العددية للعنصر البشري المحلي يدفع بهذا الاتجاه المضلل المغتر بالإحلال العددي على حساب النوعي خاصة في مجال يختلف تماماً عن بقية المجالات من حيث مركزية دور الفرد المهني فيه وتكامله مع الأدوار الأخرى. لست هنا لأقول بترشيد وترقية العاملين في المجال الصحي فقط بل لأتعرض للعوامل التي تمنع إنضاج تجربتنا الصحية في فضاء الخدمة الحكومية. أول العوامل، التشظي الحاصل لدى مقدمي الخدمة الطبية من صحة وتعليم عالي ووزارة دفاع ووزارة داخلية ومستشفيات تخصصية وقطاع خاص دون وجود جهة عليا تقود العملية تكاملياً، بل إن مجلس الخدمات الصحية استشاري في تكوينه لذا فإن الحاجة ماسة لمجلس أعلى للخدمات الصحية ينظم هذا الشتات. والأمر الثاني مرتبط بالنظام الإداري المترهل الذي يضمن وظيفة الموظف مدى الحياة دون النظر لإنتاجيته، وفي مجال حساس مرتبط بصحة الإنسان يحتاج إلى عنصري الالتزام وتطوير الذات فلا يمكن القبول بالوضع الحالي وما يفرزه من فوضى إدارية ومهنية تحتاج إلى إعادة هيكلة بشرية حاسمة لا تجامل أحداً. والعامل الثالث المركزية القاتلة للنمو والتطوير سواء في اتخاذ القرارات أو في المعاملات المالية وما يتبعه من أثر على التجهيز الطبي وغير الطبي مما يؤخر كثيراً من الخدمات خاصة عن المناطق الطرفية، لذا فإن استقلال كل منطقة وفق ظروفها وأولوياتها الخدمية أمر بالغ الأهمية عند تأمل كثير من المشكلات الواقعية. والعنصر الرابع والأخير مرتبط بجودة المخرجات البشرية، وهذا موضوع كبير لكن المؤشرات غير مطمئنة عند ملاحظة مخرجات الجامعات الناشئة والخاصة أو عدم توافق مخرجات الابتعاث مع حاجة المناطق عندما لم تعتمد فكرة المحاصصة المناطقية لسد الثغرات القائمة، وعندما يلتقي هذا كله مع ضعف أو غياب التدريب على رأس العمل وارتباطه بتجديد العقود أو العلاوة السنوية للجميع فإن النتيجة لا تخفى على عاقل. من المهم أن نكون صرحاء مع أنفسنا وشفافين في نقد واقعنا، وألا ترحل بنا النرجسية لنظن أن مشكلاتنا يحلها تغيير الأشخاص ما لم يتغير الفكر الإداري للمنظومة كلها، وفي الصحة تحديداً أرجو ألا تقودنا أزمة كورونا للتعمية على مشكلاتنا المستترة خلف الأزمة، وفي المقال القادم حديث لمعالي الوزير المكلف عن البناء على ما سبق.