يسأل تركي الدخيل، في برنامج إضاءات، عام 2009، الأمير والمثقف المبدع خالد الفيصل عن «الفكر الوارد من الخارج»؛ فيجيب الأمير: «إن مصدر قوة الإنسان السعودي، هي نقطة ضعفه… باستطاعتك، بكل سهولة، أن تخدع الإنسان السعودي… مع الأسف الشديد، استُغلَّت طيبة هذا الإنسان لتمرير… الفكر المنحرف في هذا المجتمع الطيب». صحيح أن سمو الأمير كان يتحدث عن «تغليف» الأفكار بغلاف ديني، لكن أصل المشكلة يبقى في أن «مصدر قوة الإنسان السعودي، هي نقطة ضعفه»، مصدر القوة، ونقطة الضعف، يكمنان في طيبة هذا الإنسان مهما بدا صلباً في خارجه. بعد هذه المقدمة، أعدكم بأن يكون هذا المقال مملاً للغاية، فاتركوا قراءته إلى الوقت الذي يعاندكم فيه النعاس، فسيكون ترياقاً للأرق حتى قبل منتصفه. كثُرتْ، في الآونة الأخيرة، الإعلانات عن دورات في «تحقيق الذات Self-Actualization» كما هي في أعلى درجات النسخة الأولى من هرم أبراهام موسلو للمحفزات الإنسانية. هذا المقال هو محاولة مبسطة لتسليط الضوء على بدايات «الفوج الثالث في علم النفس Third Force Psychology»، وتغليف مصطلح «تحقيق الذات» بالخداع الجمعي. في يوم 17 إبريل 1962، كتب موسلو في مذكراته، بعد أن انتهى من إلقاء محاضرة للراهبات في «كلية القلب المقدس Sacred Heart College» الكاثوليكية للبنات في ولاية ماساتشوستس، يقول: «لقد كانت المحاضرة ناجحة جداً… وهذا مقلق جداً، فلم يكن من المفترض أن يصفقوا لي، كان من المفترض أن يهاجموني… لو كانوا على معرفة فعلية بما كنت أفعل بهن لما صفقوا لي… بل لكانوا هاجموني»! (Abraham Maslow, Journals, P 157) فلماذا كان من المفترض على أولئك الراهبات أن يهاجمن موسلو أثناء محاضرته، وبعدها، لو فهمن ما كان يفعل بهن؟ كان يعرف تمام المعرفة أن «تحقيق الذات Self-Actualization» يعد مخالفة صريحة للدين؛ وأن إيمانهن بمبدأ «تحقيق الذات» سيؤثر على إيمانهن، وتدينهن… بل سيخرجهن من الدين كله. «كارل روجرز Carl Rogers»، زميل أبراهام موسلو في «علم النفس الإنساني Humanistic Psychology»، أخذ على عاتقه إكمال المهمة، وتطبيق التجربة عملياً على راهبات مجموعة كنائس «قلب مريم الطاهرImmaculate Heart of Mary». كتب كارل روجرز في ورقة، نُشرت تحت عنوان: «Community: The Group Comes of Age»، نُشرت في مجلة «علم النفس اليومPsychology Today»، في عددها الصادر في يوليو 1969، حيث يقول: «في ورش العمل المكثفة لتغيير السلوك، وحيث يضللها جو من الإيجابية والدفء، غالباً ما يطغى بين المشاركين شعور من (الحب)… والذي لا يمكن تجنبه، بالتأكيد، هو اختلاط مشاعر (الحب) تلك، بالرغبات الجنسية…». وعندما انتهى كارل روجرز من دوراته التدريبية في تلك الكنائس مع نهاية الستينيات، لم يبقَ في مجموعة «Immaculate Heart of Mary» راهبة واحدة، وبذلك أغلقت كنائس «قلب مريم الطاهر» أبوابها. من ضمن الراهبات، في تلك الفترة، التي «استفادت» من دورات «إرهاف الحواس»، كانت راهبة تدعى «جين كوردوفا Jeanne Cordova». في اليوم الأول من يناير عام 1967، استدعيت الراهبة الشابة «كوردوفا» إلى مكتب «رئيسة الراهبات Mother›s Superior Office» لإعلامها بأنها قد اختيرت لحضور دورات كارل روجرز ضمن مشروع «تطوير التعليم» وفي الكلية المستحدثة تحت اسم «كلية القلب الطاهرImmaculate Heart College» لتتخرج فيها داعيةً رئيسيةً ل «الحركة المثلية Lesbian Activism». وقد وصف أبراهام ماسلو في مذكراته «Journals، صفحة 166 – 168» تأثير تلك الدورات التدريبية بقوله: أعتقد أن ما أريد قوله هنا إن هذه العلاقات العلاجية «Therapeutic» الشخصية، التي «تدَّعي» التنمية، أو النمو الشخصي، وتستند على الألفة والثقة، والكشف عن مخابئ النفس، والإحساس المرهف، وتحقيق الذات، والمسؤولية عن المعلومات الاسترجاعية؛ ما هي إلا أدوات ثورية بشكل عميق، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، من شأنها «الأدوات الثورية» تحويل الاتجاه العام للمجتمع… وفي واقع الأمر، قد يكون ثورياً في اتجاه مغاير لما يراد له، إذا طُبقت هذه العلاقات بشكل واسع ومكثف في المجتمع. أعتقد أنه في الإمكان تغيير الثقافة الاجتماعية، كاملة، خلال عقد واحد فقط. وقد تحققت نبوءة ماسلو بالفعل في المجتمع الأمريكي بالتغيير الاجتماعي الواسع والعميق خلال حقبة السبعينيات، وكان التغيير أشد عمقاً في الجالية الكاثوليكية ذات الأقلية في التركيبة الأمريكية. العامل المشترك بين «تدريب الإحساس المرهف»، الذي استخدمه كارل روجرز، بنجاح باهر في كنائس القلب الطاهر، وهرم موسلو للمحفزات الإنسانية، هو علم النفس الجشتالط «Gestalt Psychology» الذي أخذه أبراهام موسلو، من أستاذه «كورت جولدستين Kurt Goldstein»، وهو أول مَنْ قال بمصطلح «تحقيق الذات Self-Actualization». لكن عوامل الهندسة الاجتماعية المشتركة بينهما تأخذنا إلى أعمق من تلك النظرة السطحية للارتكاز العلمي النفسي للنظرية؛ وليأخذنا عميقاً للمعرفة الفلسفية «أبستومولوجيا Epistemology»، التي تستند عليها كلتا العمليتين، وأسس لها الفيلسوف «الاستخباراتي جريجوري باتسون Gregory Bateson»، مكرراً فكر الفيلسوف الألماني الشهير «نيتشه» بموت الآلة عندما عنون كتابه الأخير: «خوف الملائكة Angels Fear». وبهذا يلتقي باتسون، وموسلو، وروجرز في فلسفتهم الإلحادية مع كل من: نيتشه، وماركس، وفرويد في التفسير. «هؤلاء المعلمون الثلاثة للشبهة، نيتشه، وماركس، وفرويد، كما يقول الفيلسوف بول ريكور في كتابه: في التفسير: محاولة في فرويد، ليسوا معلمي الريبة الثلاثة، إنهم بالتأكيد الهدَّامون الثلاثة الكبار. ولا ينبغي لذلك نفسه أن يوقعنا في الضلال مع ذلك، فالتهديم، يقول هايدجر في كتابه: الوجود والزمان، مرحلة لكل بناء جديد، بما في ذلك تهديم الدين».