إن استثنيت دواوين الشعر، والمتنبّي بشكل خاص، وحاسم، فإنه ما من كتاب بشري يمكن لي العودة إلى قراءته عشر مرات، وأكثر، دون أي شعور بالملل، أو خوف من أن لا تعاودني الدهشة البارقة، إلا ويكون اسم صاحب هذا الكتاب: إدواردو غليانو، التقيته أول مرة في كرة القدم في الشمس والظل، ولم أتم خمس صفحات من الكتاب، حتى عرفت أنني علقت في شباكه، وعلمت أنني سوف أدمن هذا الرجل، وهذا الأسلوب، وهو ما حدث، والحمد لله، أعدت قراءة الكتاب، حتى كدت أن أحفظه، ولفرط البهاء، ظننت أنه لن يتمكن من تقديم كتاب مماثل، فلم أبحث عن كتاب آخر له، لكنني لقيته أمامي صدفة، كتاب: أفواه الزمن، ولقيت إدواردو غليانو فيه، هو ذاته مشجع كرة القدم العظيم، القادر على المراوغة والتمرير، وترويض المفردة، وتسليمها بأناقة لا مثيل لها، وتسجيل أهداف لغوية راعبة حقاً، لكن هذه المرة خارج الملاعب، احتفظ بالمساحات الخضراء في محبرته، واحتفظ بالشباك لاصطياد أمثالي من الذين تفتنهم الجملة المكثفة، كأنها حبّة ملبّس، أو إبرة طبيب، وهي كلاهما وأحلى وأكثر قدرة على العلاج، وراح يكتب. كتابه الثالث، جاءني هدية طازجة، من صديق، يعرفه كثير من أهل القراءة في الرياض، اسمه بدر العنزي، مع ورقة مكتوب عليها: هذه النسخة الأولى من المطبعة مباشرة، كتاب: مرايا “ما يشبه تاريخاً للعالم”، وبالطريقة نفسها، وفي كل كتاب، يلتقط غليانو هذا، أشياء صغيرة، تكاد تكون مهملة، من التاريخ، وفي الحياة، يعيد تشكيلها، فتعرف أنه سبق لك مشاهدتها، أما معرفتها، فلا، ويحدثك عن أشياء كانت قبل دخولها محبرته، كبيرة، ومهابة، فتستغرب كيف كانت كبيرة، ولماذا كانت مهابة، تصغر في عينك، حتى تكاد تتلاشى، ويظل العطر، عطر الكلمات وضوء فوانيسها الحيي، عالقاً في ثيابك، ونظراتك، إدواردو غليانو، كم أحبك، وكم أنا ممتنّ لما تزرع في الروح من مراجيح، وطفولة.