سوف نُسعد بالحديث كثيراً عن وطننا، وبلغة مفعمة بالمعاني الجليلة، والمفاهيم العظيمة، والعاطفة النبيلة، والآمال المطرزة بأعذب الأيام، وهذا حق لا منَّة فيه لأحد، خاصة مع تحالف كل هذه التحديات الداخلية والخارجية، وسوف تنكشف الليالي عن "عميم مخلصين محبين باذلين"، وعن قلة عكس ذلك، وهذه سُنَّة الحياة، و"منهج الكبد"، الذي لابد من التعاطي معه بواقعية وحكمة. إثر تتابع الأحداث في الفترة القريبة المنصرمة، يمكن رصد ثلاثة أبعاد تشكِّل مَعْلماَ رئيسياً للمرحلة، بل لكل المراحل، إذا جعلناها برامج عمل، تتسم بالمؤسسية والديمومة، وخلقنا منها حالة ثقافية وتربوية، ينهل منها اليافعون في مدارسهم ومحاضنهم التربوية، البعد الأول هو التحدي الخارجي ممثلاً في الاعتداء على الوطن وحدوده وقيمه ومؤسساته السيادية، وهذا الأمر بطبيعة الحال، هو شأن كل الأمم العاقلة، التي تتنازل عن خلافاتها الداخلية، وتعيد ترتيب أولوياتها وأجنداتها لتجعل كل طاقاتها في خدمة اللحظة الآنية، وواجب الوقت. ما يستدعي ضرورة لفت النظر إليه هنا هو أن تكون هذه الاستجابة داخل وخارج المجال السياسي الخالي من العواطف، والمرتكز على المصلحة العملية التي تقتضي تغيير المواقف بحسب تجدد المعطيات. إن المعنى المقصود هو أن تنبري المؤسسات السياسية لتخلق لها أذرعاً إعلامية وفكرية، ومراكز دراسات، تجعل نخبة المجتمع منسجمة مع قيادتها، بل وتستبق الأحداث، وتترجمها إلى اللغة الصائبة. إن مثل هذا الأداء من دواعي إيجاد مساحة أخلاقية واعية، تمكِّن من فهم الحالة القائمة، وتتوسع معها مساحة الحوار، والتنزل في الخطاب دون تنازل عن حق الوطن، ودون التخلي عن حزم وصرامة يليقان بالموقف القائم. البعد الثاني مرتبط بالأحكام الشرعية القضائية، ومنها: الحدود، والحرابة، والتعزير، وغيرها. أثبتت الأيام الفائتة الحاجة الماسة إلى تجديد الخطاب المتعلق بالشأن العدلي القادم من الإسلام. إن المنطلق السيادي في تطبيق أحكام القضاء حجة بالغة، ومنطق قوي لمخاطبة العالم، لكن هذا لا يكفي. فلئن كان الساسة والمؤسسات في الدول الأخرى باختلاف ثقافاتها مستهدفة بهذا المعنى، فإن طيفاً واسعاً من المثقفين والمهتمين والمراقبين والمؤسسات الحقوقية في الجانب الآخر من العالم يحتاجون إلى "تفهيم" أوسع، وأعمق من فكرة الخطاب السيادي. إننا في حاجة إلى العودة إلى المفهوم المركزي في الإسلام، الذي تنطلق منه البنية الثقافية والسياسية السعودية، بل نحتاج إلى ما هو أهم عند محاورة فئات في الداخل مصابة بتشوش في الهوية، وغبش في الثقافة، تتعامل ببراغماتية منشطرة، وتزعم أنها تقود تنويراً، وتقدماً بينما هي في حاجة مؤكدة إلى مراجعة سلامة مواقفها. تؤكد الأحداث مرة بعد مرة أن الإسلام ومبادئه العظيمة صمامُ أمانٍ لهوية وطننا الغالي، ومحور يدور حوله حراك لا خيار أمامه غير "اختلاف الرحمة، والتنوع، لا خلاف التضاد والاستبداد"، لذا على العقول التي تتصدر المشهد بأقلامها وأفكارها تحمُّل مسؤوليتها تجاه ذلك. البعد الثالث وهو في الشأن الداخلي، يرتبط بإعلان الميزانية، وما صاحبه من قرارات إصلاح اقتصادي، ووعد قريب ببرنامج التحول الوطني، وهذا تحدٍّ كبير، وعمل خطير، ورؤية واعدة لها ما بعدها من تبعات، نأمل في أن تكون مدروسة بشكل كافٍ. المهم هنا هو ما لوحظ من انكشاف لحالة من التباعد، وعدم الانسجام بين الطبقة المترفة، وعامة المجتمع. بدا ذلك واضحاً من تصريحات لمسؤول، أو رجل أعمال. بعيداً عن النيات، فإنها تبدو أزمة فهم، تنبئ عن قطيعة اجتماعية، تلزم دراسة أسبابها حتى لا تتسرب الطبقية الاقتصادية على مستوى الخطاب، ثم تنتهي رويداً رويداً الطبقة الوسطى الناطقة باسم التوسط، والاعتدال الاقتصادي. هذا الموضوع لا يُعالج بالعاطفة، ولا بالتنابذ بين الأطراف، بل بالعمل المؤسسي عبر برامج إصلاح، تراعي ضعفاء المجتمع، وتفعِّل المسؤولية الاجتماعية، وتصوِّب القطاع الثالث حتى لا تكون الطبقية الاجتماعية ثغرة، ينفد منها الأعداء في عصر منفتح على كل شيء. مرة أخرى، وكما العنوان، فهذا الوطن بإسلامه، وإنسانه كبير جداً، وعميق جداً، وكل حراك سيزيده قوة إذا ما آمنَّا به وبقيمته.