هاهي جدة تحتفل أخيراً، تتزين، وتتعطر، وتبتهج بعرس الثقافة والمعرفة بعد أن حُرمت منه طويلاً دون سبب، رغم أنها احتضنت كل أنواع المعارض، والمنتديات من سيارات، وعقارات، وصناعات، ومواد بناء دون مشكلات، أو مزايدات، هاهي أخيراً تحتضن معرض الكتاب وسط ترقب وانتظار طال أوانه. جاء المعرض على قدر التطلعات إلى حدٍّ كبير، مساحات وممرات واسعة، ودور نشر متعددة، وسوق حقيقي للكتاب من معظم الدول العربية. حالة من البهجة والسعادة انتشرت بين زوار المعرض، شبان وفتيان صغار في العمر يتجولون بشغف، وينتقون عناوين وأغلفة بخبرة ودراية، تستغرب من وجودها لدى مَنْ في سنهم. أسر، وأطفال، وطلاب مدارس، رجال، وشيوخ من مختلف المشارب، يمارسون عادة التسوق العتيدة لدى السعوديين، لكن مع الثقافة والمعرفة هذه المرة، وليس مع المأكولات، أو البضائع الاستهلاكية. لكن، ولأن لنا خصوصيتنا التي تصبغ كل شيء، وتضعه في قالب إسمنتي خشن وقبيح، وتسلب منه البهجة والانطلاق، كان لابد أن تظهر متلازمة معرض الكتاب المعتادة في جدة، كما ظهرت واستمرت طوال سنوات في معرض الرياض، ولمَنْ لا يعرف متلازمة معرض الكتاب في السعودية، فكل ما عليه فعله هو أن يراجع الصحف، والمنتديات السعودية في التواريخ، التي تتزامن مع بداية شهر مارس من كل عام، موعد معرض الرياض للكتاب، ليرى «المضحكات المبكيات»، حيث سيجد البيانات حادة اللهجة، التي تحذر من المعرض، ومن «كتب الكفر والفساد والانحلال» التي فيه، ثم سيقرأ بعض الأخبار عن مناوشات حدثت في أرض المعرض، أو في مسرح الفعاليات مثل: الاعتراض على أمسية، أو مسرحية. ثم في الجانب الآخر سيجد بيانات وحرباً مضادة على الظلاميين والمتعصبين، الذين لا يريدون للشعب أن يتعلَّم، أو يقرأ ليبقى جاهلاً ما بقي له من العمر، ثم ستجد الردود الأكثر حدة، التي تصف الفريق الآخر بالليبراليين والتغريبيين، الذين يخالفون الشرع، ولا يلتزمون بأوامره. وبين هؤلاء وهؤلاء دائماً ما يضيع الحديث الحقيقي عن الكتاب نفسه، عن الكتب والدور والمؤلفين، عن الإصدارات الجديدة والطبعات النادرة للكتب والترجمات والعناوين المتخصصة، عن الأحدث والأقدم والأفضل والأغلى والأجود بين الكتب، كما هو الحديث الطبيعي عن أي معرض كتاب يقام في أي بقعة من العالم. وهاهي المتلازمة تبدأ بالظهور في جدة، ورغم أنها متلازمة إعلامية في المقام الأول، ولا أثر لها يذكر على أرض الواقع، إلا أن كلا الطرفين يستمتع بإثارتها، ويتلذذ بجعل المعرض ساحة جديدة من ساحات معاركهم، التي لا تنتهي. كتب القاص والروائي المكي الجميل صلاح القرشي، على صفحته في «فيسبوك» عبارة قصيرة، تصوِّر انطباعه عن زيارته الأولى للحدث: «المعرض رائع جداً ومنظم وهناك تعاون جميل وبشاشة من العاملين على التنظيم والتنسيق، فيا ليت أننا نتحدث عن أجواء المعرض.. عن الكتب.. عن دور النشر.. بدلاً من الحديث المكرر والممل عن الهيئة والحسبة والمناكفات الصغيرة». صدقت يا أبا ربيع.. لقد مللنا، ادعُ الله لنا بالشفاء من متلازمة المعرض.. فقد أرهقتنا كثيراً!