جُمِعَ أمام ناظري في ليلةٍ حالُ أغلب البشر، فقرٌ وغنى، جوعٌ ملتهبٌ وشبعٌ رغد، ووقفت حينها برهةً وقفة المتأمل المتألم، فرأيت كل معاني الإنسانية قد انهارت في ذلك المشهد، فبيت ذلك الفقير المُعدَم، مقابلٌ لبيتِ الغنيِّ المُكرَم، فبدا لي مشهدٌ ممزقٌ يصرخ فيه الألم بصمتٍ ينطق عن قسوة الواقع ومرارة الحال، وتفكرت كثيراً لم أعلم بصدقٍ من الفقير الحقيقي فيهما. كيف يهنأ لإنسانٍ أن يغدو ويروح ويبيت مترفاً منعماً شارباً آكلاً لابساً راكباً، ولا يعلم عن جاره الإنسان شيئاً، أو أنه يتذكره ببعض أعطياتٍ ثم لا يلبث أن يلوح عليه النهار فينساه، أو أنه يعلم ولكنه يتجاهل ويتغافل حتى يُلقى على مسمعه خبر وفاته ومفارقته الحياة، فإن كان في قلبه بقيةٌ من رحمة، فسيعض عليه أصابع الندم –وهل ينفع الندم !-، وإن كان ذا قلبٍ متحجرٍ فحسبه ما فيه من القسوة والغلظة. ما أقسى قلوبنا على بعضنا بعضاً، وما أفقر عقولنا عن التفكير في أساسيات الحياة، واللمسات التي ستسقي أنفسنا كرماً وخيراً كي نشعر بالإنسانية الحقيقية، وقيم الحياة السامية، فنصبح كالشمس تشرق بالأمل والمحبة في نفوس من حولنا، ونُشركهم السعادة التي منّ الله بها علينا، ولا نستأثر بالخير لأنفسنا، يقول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "، ولكننا مع الأسف في أغلب الأحيان نقدم أنفسنا على غيرنا، ونفكر أننا ما دمنا في مأمنٍ فلا نشغل بالنا بما ليس لنا، فلا نحرك ساكناً، ولا نلين قلباً قاسياً –إلا من رحم الله-. لو أن الأغنياء في هذه الدنيا، في بقعتهم التي يعيشون فيها، فتشوا بالقرب منهم عن المحتاجين والفقراء والبائسين، فبادروا ومدّوا يد العون إليهم بما يكفيهم مؤنتهم بلا منةٍ ولا ذلة، أو أنهم أعانوهم على تفقد سبيل العمل والاقتيات من بابٍ كريمٍ إن كانوا أصحاء ولا يد لهم في عمل، فذلك سيحل لهم المشكلة، ويفك عنهم الأزمة، ويبهج خواطرهم ويسعد قلوبهم، يقول طه حسين: "مهما يبلغ الفقر بالناس، ومهما يثقل عليهم البؤس، ومهما يسيء إليهم الضيق، فإن في فطرتهم شيئاً من كرامة تحملهم على أن يجدوا حين يأكلون مما كسبت أيديهم لذة لا يجدونها حين يأكلون مما يساق إليهم"، ولو أن الأغنياء علموا القريب أولى بصدقتهم وعطيّتهم، بدلاً من أن يفتشوا في أقصى الأرض وأدناها عن المشاريع الكبرى وهم لا يعلمون من أمر جارهم الملاصق لهم شيئاً، لما كان هناك بهذه الصورة البشعة فقيرٌ معدم، ولا محتاجٌ مهان، ولا رأينا على هذه الأرض ما نرى من مشاهد البؤس، ما يكسر القلوب الصلبة، ويُدمعُ الأعين الجامدة، فمشاهد البؤس والعوز قد ضاقت بها الأرض ذرعاً، وعجزت عنها الأفئدة وصفاً، ليت الإنسان يعلم أن الخير والمعروف الذي يصنعه اليوم، سواءً كان مقتدراً أو على قدر سعته، في سرّائه وضرّائه، إنما هو ينتظره في المستقبل القريب أو البعيد، وأنه لن يضيع سدى، ولن يذهب هباءً منثوراً، قال تعالى:﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾، فذلك الخير قد يردُّ عنه شراً محدقاً، أو فجيعةً لا تخطر له على بال. وليت الإنسان يعلم أنه لن يصل بقلبه إلى معنى سامٍ من معاني الإنسانية حتى يترع قلبه بالرحمة والعطف على من يحتاجهما، فما إن أُترع بالرحمة إلا وسوف يصبح ذا قيمةٍ عالية، وستنير تلك الرحمة المتمكنة من قلبه دربه، وستشد أواصر المودة والمؤاخاة بينه وبين الناس، قال نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم:"مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". وليت الإنسان يدرك جيداً أن لذة العطاء تفوق لذة الأخذ بدرجاتٍ عالية، وأنه ما إن أسعد قلباً حزيناً، وأبهج خاطراً متألماً، وفرج كربةً، ووسع ضيقةً، وأذهب غماً، فإنه بذلك يصبح بحق "إنساناً"، ينبض بين جنبيه قلبٌ رحيمٌ كريم، ويقوده فكرٌ سليم، واختتم بما قاله المنفلوطي: "أيها السعداء، أحسنوا إلى البائسين والفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".