أيها الناس، إن أرواحنا المُمَكَّنَةُ بيدِ الله يمسكها ويرسلها وقتما شاء، لهيَ أقربُ إلى الفناءِ من البقاء، – مدّ الله في أعمارنا على طاعته -، فعلامَ التباغضُ والتجافي، والهجرُ والتعادي، والقسوةُ والكراهية، ونحن لا نعلم أنمسي كما أصبحنا أو نصبح كما أمسينا؟! وإننا لنجد بعض الناس يختصمون على مسائل تافهة، وأمورٍ ساذجة، – هذا إن كانت الخصومة مباحة في الخطوب الجليلة -، بل ويتدابرون ويتقاطعون بالأشهر والأعوام، وينسون كل ما كان بينهم من فضلٍ وعشرةٍ حسنة، سواءً كانوا أقرباء أو أصدقاء، ويمنعهم من الرجوع والاعتذار والتسامح والتراحم، كبرٌ في نفوسهم، أو قسوةٌ في قلوبهم، ولو علموا أن الإنسان لا يملك لنفسه تلك الأنفاس التي يرسلها في اللحظة الواحدة، وأنه قد يسمع -لا قدر الله- خبراً برحيل ذلك الإنسان الذي خاصمه دهراً، فيقلّب كفيه ألماً، ويعض على شفتيه ندماً، لما خاصمهُ ليلةً واحدة، ولا أضمر في نفسه حقداً ولا بغضاً لأحدٍ من الناس بعده. فليت الإنسان يرحم أخاه الإنسان، ويعلم ضعفه وطبيعته البشرية، ويترك له مساحةً إن أخطأ، ولا يبادله بالقطيعة والشحناء، بل يكون على خُلُق، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم}. لقد كتب الكاتبون عن الرحمة كثيراً، وأُلقيت على المنابر طويلاً، ومع ذلك لا نتلمسها في عالمنا الإنسانيّ المسلم بين بعضنا بعضاً إلا من رحم الله، وإن ما أثار حفيظتي، حينما شاهدت بالأمس مقطعاً «للبؤةٍ» هَرَعت إلى مُربيها حينما دخل عليها بعدما كان فارقها زمناً، وأقسم أنني حسبت للحظةٍ أنها إنسانٌ في جسد حيوان، لما دهشني من احتضانها له بكلتا يديها، ومن شدة احتضانها له ألقته أرضاً ومكثت تقبله وتلعقه وتضمه، في مشهدٍ يَكسِر القلوب الغليظة، ويُدمِع الأعين الجامدة، فكيف يكون حيوانٌ يسمّونه *مفترساً* أرحم وأوفى وأحنّ من كثيرٍ من البشر، وقد يقول القائل، ذلك لأنها لم ترَ منه شيئاً سيئاً قط، فأقول له، بل كان فارقها زمناً، وإن كانت إنساناً، لأشاحت بوجهها عنه لأنها كرهت مفارقته لها، ولكن المحبة والرحمة الكامنة في قلبها، لا تفقه أنه فارقها بقدر ما تفقه محبتها وإخلاصها له، وأقول لذلك القائل أيضاً إننا نرى من مشاهد العقوق ما يشتعل له الرأس شيباً، أو لم يفني هذان الوالدان عمرهما لأجل ذلك الابن الذي أصبح عاقاً؟ ومع ذلك فقد أنكر جميلهما ونسي فضلهما. وإنني أرى أن السبيل إلى تنقية النفوس، وتصفية القلوب، لهو الرحمة في أسمى صورها، وأراها تأخذ مرتبةً أعلى من التسامح والعفو، لأنهما قد يقعان بعد الخصومة، أما الرحمة إن أُترع بها القلب، فإنها ستمنع الخصومة أن تحدث، فهي تضم بقية المعاني السامية، وهنا، يصفُ الله تعالى نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام وأصحابَه،{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }، فذلك هو السبيل الذي ينبغي أن يكون بين المسلمين، فلو علمنا بحقٍ معنى الرحمة الحقيقية ولقنّاها لأنفسنا وسكبناها في قلوبنا سكباً، لما تجرّأت قلوبنا في أغلب الأحوال على التدابر والتهاجر، ولا رضيت إنسانيتنا أن ننام هانئين، وفي قلب أحد بسببنا جرحاً أوحزناً.