إن كنتم تظنون أن الحضارة تتلخصُ في سياراتٍ فارهة، أو قصورٍ مُشيَّدة، أو ملابسٍ فاخرة، أو أي مظهرٍ من مظاهر الترف، فقد أخطأتم في حقها أشد الخطأ، وألبستموها لباسا غير لباسها. أصوِّب كلماتي تلك لمن لا يبالون بإلقاء مخلفاتهم من نوافذ سياراتهم على الطرق، فيلوثونها بعد أن بذلت فيها الجهات المختصة جهودها، بتسخير طاقاتٍ بشريةٍ يوميةٍ يبذلون قصارى جهدهم في تنظيفها وتجميلها، ومن يخلفون وراءهم منظراً مؤذياً للعين، منفِّراً للنفس، في أي مكانٍ عام، سواءً كان في المدرسة أو الجامعة أو الأسواق أو الحدائق أو المطاعم أو أياً كان -حتى وإن كان هناك عامل للنظافة- ؛ وإنه لمن المؤسف والمخزي، أن نرى بعض الدول الغربية المتقدمة التي لا تحكمها ديانة الإسلام، يقدّرون النظافة جُل التقدير، ويتربّون عليها منذ نعومة أظفارهم، فتصبح النظافة جزءًا من شخصياتهم، فنجدهم لا يوفرون عاملاً للنظافة في الحدائق العامة، وليس ذلك إلا أنهم يثقون في ثقافة شعوبهم وأنهم سيحملون مخلفاتهم بعدهم إلى صندوق النفاية، ومن هنا نستفيد بأن يضع الشخص في حسبانه أن يحمل معه حاوية صغيرة في سيارته دائمًا، وكلما ذهب إلى أي مكانٍ عام يصطحب حاويةً بلاستيكية معه لجمع النفايات بعد الانتهاء، ولك أن تتخيل إن التزم العامة بذلك كيف سيكون الحال مبهجاً. ما كانت الحضارة يوماً، إلا رقيا في الفكر والعلم، وعلوا في الأخلاق، يلحقه سموٌ في العمل والتطبيق، لأن الحضارة صورة المجتمع البهية التي تعكس في مرآته ثقافته وفكره وأدبه ورقي أخلاقه، وكيف إذا كنا أمةً مسلمةً تحشو حافظتها بأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، التي لا يُفقه بعض منها سوى الترديد من حينٍ إلى حين، فنعلم أن {…وتُميط الأذى عن الطريق صدقة} –حديث شريف-، فما بال بعضنا أصبح يخلّف وراءه الأذى بعينه! إن النظافة العامة، ما كانت إلا دليلاً على النظافة الخاصة، وإنه ليس من المقنع أبداً، أن أرى مظهراً جذاباً، ومركوبًا فخمًا، أو أشم عطرًا فواحًا، ثم بعدها لا يحسن ذلك الشخص التصرف في نظافة الطرق والأماكن العامة، فتتأذى الإنسانية مما خلفه من منظرٍ منفِّر. لا أكِل الأمر إلى عقوباتٍ صارمة على من يفعل مثل تلك الأفعال، لأن ذلك ليس المقصود، ولا المطلوب، ولا أكِله أيضاً إلى التوعية وخلافه لأنها لم تجد النفع المرغوب، وإنما أُرجع الأمر إلى عقولكم الواعية، وضمائركم الرشيدة، ففكروا جيداً، ماذا لو عدت بعد دقائق إلى نفس المكان الذي تركته ملوثاً، أتشتهيه نفسك؟ أيمكنك البقاء فيه لحظةً واحدة؟ وماذا لو ألقى أحدهم شيئاً من نافذة سيارته والتصق بزجاج سيارتك؟ أستغضب أم لا ؟ فما بالك إن فعلت ذلك بغيرك؟ أو تركت المكان ملوثًا ينظفه أحدٌ بعدك، وهل تقبل أن ينظف مخلفاتك أحد؟ وهل تعتقد أن ذلك يليق بالإنسان المُكَرم على سائر المخلوقات؟ الذي لابد وأن يتميز عنها بعقله وتصرفاته الراقية، وختاماً، كُن الإنسان الذي تحب أن تلقاه دوماً، واترك المكان كما تحب أن تراه أبداً.