باشرت سمعي كثيراً مقولة كنتُ من أشدِّ المعارضين لها، ألا وهي « البعيدُ عن العين بعيدٌ عن القلب»، وكنت –وما زلت- متيقنة أن البعيد عن القلب مفروغٌ من محبتهِ حتى وإن كان ملاصقاً للنظر ليل نهار، بل إن القريبَ حقاً هو الذي يُمسي ويصبح في قلبك، عالقاً في تجاليد ذاكرتك. وعندما تفجرت ينابيع التقنية، سالت بأنواعٍ شتى من أجهزة الاتصالات الحديثة التي تنطوي على عددٍ هائلٍ من تطبيقات التواصل الاجتماعي النصي والصوتي والمرئي، حتى أن الكرة الأرضية جمعاء أصبحت بين ليلةٍ وضحاها في جيبك؛ فظنّ الناس بذلك أنهم تقاربوا جداً، وأن الصِلات القائمة بينهم ازدادت قوة، ووفَرَت محبة، ولكن ما حدث مغايرٌ لذلك في كثير من الأحيان، فقد يمرُّ الشهر والشهران وأكثر ولم نرسل لشخصٍ قريب، أو صديق، أو معرفة، رسالةً نصيةً نطمئن بها إن كان على قيد الحياة، وهو كذلك في المقابل. والعجيب! أن بعضهم قد ينشئ رسالةً جماعيةً ويختارُ فيها عدداً كبيراً من الأشخاص المسجلين لديه، فيرسل لهم الحكم والمواعظ والمقاطع المفيدة والمضحكة والمؤثرة، وعلى أغلب ظنه أنه بذلك ينصح قلباً، أو يُضحِكُ ثغراً، وقد تمكث تلك القائمة عاماً وعامين دون أن يحادث أغلب من فيها محادثةً خاصة. ما الذي جرى؟ وماذا حدث؟ هل زاد الجفاء مع ازدياد القرب ودنو الاتصال؟ وهل عُكِسَت هذه المقولة التي اعتقدها كثيرون؟ ما أجمل الزمن الذي كان الناس فيه ينتظرون ساعي البريد بلهفةٍ عارمةٍ، لرسالةٍ وصلتهم من عزيزٍ عليهم، فكان لها مذاق اللقاءِ بعد الشقاء، بل ويعيدون فتحها وقراءتها كل حين، وكانوا يحلمون بشيءٍ أسطوريًّ يحملهم إلى ذاك الحبيب، فكان الذي في القلب حقاً قريباً، حتى وإن كان عن العين بعيداً. ليت شعري من قائل هذه المقولة؟ أيزال حياً؟ لأخبره أن الناس أصبحوا في جيوب بعضهم بعضاً قُرباً –أي في هواتفهم-، ومع ذلك لا يتواصلون ولا يتحدثون سوياً إلا في مناسبةٍ سعيدة، أو مصيبةٍ جليلة -إلا من رحم الله-. ليتني وليتهم يتذكرون أن الحياة أقصر من أن نتباعد ونتجافى، وأنه أجدرُ بنا أن نضع بعضنا بعضاً في قلوب بعضنا بعضاً، ونطمئن على أحوالِ أقربائنا وصحبنا ومعارفنا في أيامٍ متقاربة، حتى لا نندم، حين لا يُجدي الندم شيئاً.