نستكمل في هذه الحلقة ما بدأناه في حلقة سابقة، عن الصيف وما فيه من تواصل، وما جد فيه من جديد في وقتنا الحاضر، بالإضافة إلى أن مكان الذكريات وإن خلا من الحركة المعهودة ونشاط رجاله بالأمس وكثير من ملامحه، إلا أنه لا يزال غاليا على النفوس لا تقوى على مفارقته أو التفريط فيه. ومن المعلوم أنه يختلف تفاعلنا مع فصول السنة التي تتعاقب علينا، وإن كنا لا نرى في الواقع إلا فصل الشتاء ويعتبر فصل الربيع امتداده، والصيف ويعد الخريف امتداده أيضا فكأن السنة نصفها بارد ونصفها الآخر حار. وقد تثاقلنا فصل الشتاء وبرودة الجو بنشاط مختلف عن فصل الصيف وحره، فمن يحب المكاشيت ويهواها والقنص والرحلات البرية يقبل بفرح على استقبال الشتاء وهو يفتح لهم ذراعيه، بينما عشق البعض الآخر الصيف، وهؤلاء هم محبو التلاقي والتجمع والتواصل مع بعضهم وتجديد العلاقات، ففي الصيف تجتمع عوائلهم وأسرهم وقراباتهم وزملاؤهم، وهو بالنسبة لهم فرصة لمثل هذا الاجتماع الذي ينتظرونه طيلة العام. ويبدأ الصيف بحساب معروف عند الأوائل والأواخر، وللقيظ أو الصيف وصف بأنه حر شديد ويطلق على أشد حره جمرة القيظ. وفي قصيدة وصف شاعرها الحر الشديد، فسماه جمرة الصيف، لأن الأرض تلهبها حرارة الشمس حتى تتحول إلى نار وأقرب وصف لها الجمر الملتهب، وهو تشبيه وإمعان في وصف حرارة الجو في الصحراء فقال: متى على الله تنطفي جمرة الصيف ويهب من صوب الشمال البرادِ ونشوف بيض المزن بالجو تصافيف وميض برقه مثل قدح الزنادِ الله إلى مدّت زوالٍ مناظيف ثم صفف الولاّع حول الرمادِ صفر الدلال اللي بها ناعم الليف والتمر قِرّب توّ وقت الجدادِ صفّوا ومدّوا ينتقون السواليف سوالفٍ بالصيد ما هي دوادي في مجلس ما عذربوه الملاقيف ما غير ربع مصفيين الودادِ وقت الرخا ربعٍ كرامٍ مواليف وعند العسر يعجبك صبر المهادِ وهو هنا يختلف عن محبي الصيف، لأنه يريد الشتاء وبراده ليخطط بعد ذلك لرحلة برية وللمكاشيت والصيد، حيث لا يصلح في جمرة القيظ وحرارة الصيف تجول ولا طرد صيد ولا صبر للمسافر على العطش والتعب، كما أن الصيد الذي يريده قد لا يتوفر في الصيف. وبداية الصيف سجلها الشعراء وغيرهم، يقول راشد الخلاوي مبيناً بداية الصيف حتى ظهور نجم سهيل وبداية انصرام الحر وقرب البراد: متى الثريا مع سنا الصبح وايقت على كل خضرا ودعت بالسنايد من عقبها نجم كما فرخ متلي على الشوق يتليها بمشيه يعاود بوارح الجوزا ربا فيه بسرها واختلفت الالوان بين الجرايد وإلى ظهر المرزم شبع كل كالف من الغيد وانحن الليالي شدايد ونجوم الكليبين التي تنشف الجم يغور فيها ما العدود الوكايد والى غابت النسرين بالفجر علقوا مخارف في لينات الجرايد والى مضى عقبه ثمان مع اربع الخامسه طالع سهيل يحايد ويقول أيضاً: قال الخلاوي والخلاوي راشد عمر الفتى عقب الشباب يشيب حسبت انا الأيام بالعد كلها ولا كل من عد الحساب يصيب حساب الفلك بنجم الثريا مركب يحرص له الفلاح والطبيب فاليا صرت بحساب الثريا جاهل ترى لها بين النجوم رقيب اليا غابت الثريا تبين رقيبها واليا اطلعت ترى الرقيب يغيب ولا قارن القمر الثريا بحادي بعد احد عشر عقب القران تغيب وسبع وسبع عد له بعد غيبته هذيك هي الكنه تكون مصيب ومن بعدها تطلع وبها القيظ يبتدي وتاتي بروق ولا يسيل شعيب واليا مضى خمس وعشرين ليله ثقل القنا من فوق كل عسيب وتطلع لك الجوزا وهي حنة الجمل وتاتي هبايب والسموم لهيب واليا مضى خمس وعشرين ليله يطلع لك المرزم كقلب الذيب واليا مضى خمس وعشرين ليله يطلع سهيل مكذب الحسيب وكما أن لكل فصل ميزته وحب فئة من الناس له لما يحققه لهم من تهيئة الفرصة للممارسة النشاط الذي يريدونه فيه، فإن ميزة الشتاء الرحلات والمكاشيت، وميزة الصيف التلاقي والتجمع وقضاء وقت سياحي بين الأهل والقرابة. قال الشاعر بندر الشبعان. لوالله الا راح وقت المكاشيت وهبت هبوب الصيف كله عجاجي ياشين جو فتت القلب تفتيت وكدر على العيش عكر مزاجي لولا هموم بالحشا ما تغنيت بابيات شعر قلتها بانزعاجي لو الله اللي للمكاشيت كبيت ما عاد فيه فلة للحجاجي يا ما لبراد الجو والله تشهيت والصبر لو أقواه ينفع إعلاجي يا زين لا منك للحجاج فليت بجبال طخفه والا بدنا اسواجي السيل يزبد والرعد له تصاويت والقاع صابه من البرق ارتجاجي إذا المكاشيت والرحلات تعني البقاء في البر وتتطلب ترك البلدة ومجتمعها والنجعة نحو مواضع النبات والربيع ومكان الصيد وتحريه، وتحمل القدم على المسير إليها ولو كانت بعيدة، فهذه تكون عادة في فصل يبرد فيه الجو ووجود ما يغري بالتنقل، لهذا تركزت في أوقات الشتاء والربيع، وهذا لا يعني أن الصيف لا يوجد فيه رحلات وتنقلات، بل فيه من المكاشيت والرحلات إلى الغيران والكهوف والمتنزهات الطبيعية والأشجار والجبال ما يفوق ربما فصول السنة كلها، خاصة في أيامنا هذه حيث تغيرت فيها الحياة عن السابق وتوفرت وسائل النقل والتزود بما يحتاجه الرحالة، لكن يفضل البعض التواصل على التفرق والتلاقي والاجتماعات على غيرها وهذا يكون صيفاً أو ما نسميه القيظ. فالقيظ وإن كانت فيه معاناة الحر والعطش، إلا أنه في منظور السكان أهون من برد الشتاء. وأبرز ما يحتاط له في الصيف الماء وهو الذي يحدد أيضا مواضع البقاء أو الرحيل، في الحضر والسفر، ولا ينزل أهل البادية والمسافرون إلا على مورد ماء سواء بئراً محفورة أو عداً أو حسياً أو بركاً تجمعت فيها مياه المطر، أو قرب حضر لوفرة الآبار ومائها. ولأهمية الماء تأثرت بعض العبارات لديهم مثل(قران حادي على الماء ترادي) حيث بداية الصيف وحرارته والحاجة للماء فيتردد الجميع على الماء بعكس الشتاء. وقالوا في الأمثال الشعبية :(الشتاء يبي صميل، والقيظ معك علمه) ويقصدون أن الشتاء رغم برودة الجو فيه إلا أنه يحتاج إلى صميل ماء لكي يشرب المسافر، وأما القيظ فمفروغ من ضرورة نقل الماء فيه وقت السفر ولا يختلف عليه اثنان بل إن ترك الماء يعني الهلاك. ومن جميل الصيف في الماضي السمر والسهر في سطوح المنازل، حيث الهواء اللطيف قياسا مع حر وسط النهار، وهذا الوضع الذي عليه أهل القرى يعطي ميزة لمساء مريح ولنا أن نتصوره، فالأصوات الهادئة التي تصل من عموم الجيران لبعضهم عبر الأجواء المفتوحة تشيع الأمان في النفوس وتعطي إحساسا بالترابط، وكذلك خروج الشباب إلى الأماكن خارج مباني القرية سواء قريبة من أسوارها أو بعيدة يستمتعون بالأجواء المعتدلة. ومن جميل الصيف أيضا ارتياح ذوي الدخل المتدني والفقراء، حيث يتوفر الكثير من المحصولات والمنتجات صيفاً، سواء التمر أو القمح وقت الحصاد أو الخضار والفواكه، وتكون عادة غير قابلة للتخزين كالبطيخ والعنب وغيرها فتباع رخيصة الثمن حيث تجلب في الأسواق بوفرة فيحصل سعادة للجميع بحصولهم على ما يريدون. والأهم من كل هذا أن جميع أبناء القرى الذين يعملون في أماكن بعيدة يفدون لقراهم، تجذبهم المحبة لأهاليهم وبلدانهم يقضون وقت الصيف أو ما يسمى المقيظ بين معارفهم، يساعدونهم ويشاركونهم الفرحة والسعادة. وهي رحلة عودة سنوية شبه متفق عليها، تعود الطيور إلى أعشاشها ويطمئن الأهل على أحوال أولادهم بعد الغربة والمعاناة، وفي الغالب تكون عودتهم مصحوبة بالوصل والهدايا العينية والمادية. ونختم بهذه الأبيات، أوجز شاعرها أمنيات له في عطلة الصيف، موجها قصيدته ويسند على شخص اسمه منيف فيقول: يامنيف جتنا مقبله عطلة الصيف والبوك فاضي مامعي كود فكه والناس شدت عفشها والمصاريف تبغى تغير جوّها والمضكه ناسٍ تبا باريس ناسٍ تبا جنيف والصنف الاخر جالسٍ فوق دكه الحظ الاقشر في حياتي كما الضيف لا قلت روّح قال ماعنك فكه ادلّه النفس الحزينه على السِّيف والا على البيلوت تجزير صكه ماقول ليت ان الليالي على الكيف يسعد بها رجلٍ بخافيه لكه وان كان تبغى العلم ياخوك يامنيف عمره لبيت الله في دار مكه هي خير من باريس واطيب من جنيف تبري عنى نفسٍ من الوقت ضنكه