في المجتمعات المتقدمة يسهل تفسير الظواهر الاجتماعية وتشريحها على نحو يساعد كثيراً في معالجة ما فيها من سلبيات أو تعزيز ما فيها من جوانب إيجابية إن وُجدت، ويرجع الفضل في ذلك إلى مراكز البحوث والدراسات الاجتماعية التي تحظى بمصداقية عالية لدى شريحة كبيرة من الجماهير. ولذلك يعدها كثير من المختصين والمهتمين في الشأن الاجتماعي والثقافي، المرآة الحقيقية التي تعكس الحراك الفكري والاجتماعي في أي مجتمع، لأنها تكشف الجوانب الخفية التي ليس باستطاعة الناس رؤيتها من خلال إخضاع الظواهر الاجتماعية للنقد الموضوعي الشامل لكافة الأبعاد الاجتماعية والثقافية المترتبة على انتشارها في المجتمع. وفي مجتمعنا المحافظ توجد عديد من الظواهر التي تستحق الدراسة والتحليل نظراً لغرابتها وتناقضها مع ما نؤمن به من قيم وأفكار ومبادئ تشرّبناها منذ الصغر. وإحدى هذه الظواهر الغريبة التي لا أجد لها تفسيراً منطقياً، هي التحول الكبير الذي نشعر به في الأيام الأولى من شهر رمضان في أخلاقياتنا وتصرفاتنا تجاه بعضنا بعضاً، حيث نتبادل رسائل المحبة والتسامح والإكثار من التضرع إلى الله كي نكون من عتقائه من النار. ثم ما إن ينتصف بنا الشهر الفضيل حتى تعود تلك الأخلاق والمثاليات إلى أدراجها وكأن روحانية الشهر لم تعد تكبح جماح أهوائنا وأطماعنا وسلوكياتنا السيئة! إن هذا العرض التناقضي الذي ينتابنا ما بين أول الشهر ومنتصفه، يدل على أن تأثير العادات الموسمية أقوى بكثير من روحانية الشهر الذي ما فتئنا نتغنى باشتياقنا ولهفتنا بقدومه بعد شهور من العناء والتعب الذي أوهن النفوس والأبدان. قد يحاول بعضنا تبرير هذه الظاهرة بأنها نسبية ولا ترتقي إلى أن تكون ظاهرة بالمعنى الدارج لهذه الكلمة من حيث أبعادها وآثارها على المجتمع، وحجته في ذلك أن الظروف المحيطة بالشخص قد تفقده السيطرة في التحكم في سلوكه في مواقف معينة مثل حرارة الجو وازدحام الطرق وما شابه ذلك من الحجج غير المقنعة التي تعكس بوضوح هيمنة الثقافة التبريرية على كل الأخطاء التي نرتكبها بوعي وبمحض إرادتنا، وهو أمر غريب أن نربط سوء السلوك والتصرفات الذي يصدر من بعضنا بما يحيط به! وكأننا نقول بصريح العبارة إن التطبيق الفعلي لمفهوم الصيام يعتمد في المقام الأول على ظروف الطقس والازدحام… وضع ما شئت من الحجج الواهية التي اعتدنا على كثرة سماعها في منتصف الشهر الفضيل! والحقيقة خلاف ذلك، وهي أن بعض الصائمين في بلادنا يُفرغ الصوم من غايته العظيمة، ألا وهي تلمّس حاجات الفقراء والمحتاجين والشعور بما يكابده إخوة لنا في الدين والإنسانية، حيث تلحظ علامات الضجر والانزعاج تكسو وجهه طوال النهار، وما إن يُسدل الليل أستاره حتى تنفرج أساريره وكأنه كان في كرب عظيم! مثل هذه التصرفات المألوفة في رمضان تحتم علينا مراجعة الذات لعلنا نهتدي ونقتدي بسيرة المصطفى وصحبه الكرام الذين ما إن يدخل عليهم شهر الرحمة والمغفرة حتى يتفرغوا لأداء العبادات والقيام بأعمال الخير في ظل ظروف أكثر مشقة وعناء من ظروف زماننا الذي ننعم فيه بكافة وسائل الراحة والرفاهية. إن للصيام لذة لا يشعر بها إلا أولئك الذين خالطت أرواحهم حلاوة الإيمان إلى أن تمكنت من جوارحهم، بعدما تدبروا الآيات القرآنية بإمعان وفهم عميق للأوامر والنواهي التي اشتملت عليها النصوص الربانية، ولم يركنوا إلى تلك الحجج الواهية، التي بسببها ربما حبطت أعمال كثير ممن لم يفقهوا الغاية العظيمة من الصيام، فالصائم الممتثل للأمر الإلهي والباحث عن زيادة الأجر لا يثنيه الطقس الحار ولا الزحام الذي تغصُّ به الشوارع عن التحلي بالخلق القويم والتسامح مع إخوانه المسلمين، فالمفترض أن يكون من أكثر الناس بحثاً عن الأعمال التي تقربه إلى الله، لا أن يُفسِد صيامه مع أول موقف عابر قد يعترضه. إن من الواجب أن نعي أن الصوم لا يقتصر على الامتناع عن الأكل والشرب إلى غروب الشمس، بل هو أسمى وأعظم من ذلك بكثير؛ فالغاية منه هي مشاركة الفقراء والمساكين الإحساس بالجوع والعطش، ولهذا كان الأمر الإلهي كي ترقَّ قلوبنا ونرحم بعضنا بعضاً. إذاً لماذا لا نراجع أنفسنا مراجعة حقيقية قبل أن يهلَّ شهر رمضان بقدسيته وأجوائه العابقة بالروحانية كي لا تقتصر فرحتنا به على أيامه الأولى فقط؟ والمراجعة حينما تكون صادقة غالباً ما تُحدِث في النفس أثراً إيجابياً يساعد على التخلص من السلوكيات والعادات السيئة.