قراءة النسخة العربية من كتاب ( مقال عن المنهج ) لرينيه ديكارت، تجعل القارئ المنتبه، وحتى غير المنتبه، يلمح شيئاً غريباً. ألا وهو أن رينيه ديكارت الفيلسوف الفرنسي الذي عاش ما بين ( 1596 – 1650 ) ووُلد في أندرو ولوار / فرنسا، ومات في ستوكهولم / السويد، يبدو كأنه شيخ مصري أزهري ! هل السبب في ذلك أن ديكارت قد أخذ كثيراً من أفكاره عن أبي حامد الغزالي، كما أثبت ذلك وزير الأوقاف المصري السابق د. محمود حمدي زقزوق في كتابه ( المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت) وأن منهج الشك المنتظم الذي يسعى لليقين، ليس من ابتكار الغربيين بل سبقهم له الغزالي بمئات السنين؟ لا، ليس هذا هو السبب، وليس هذا ما أريد قوله في هذه المقالة، فأشح بذهنك عن هذا. الذي جعل النص العربي (مقال عن المنهج) يبدو وكأنه نص كتبه شيخ من شيوخ الأزهر هو أن من كتبه فعلا، هو رجل ممن درسوا في الأزهر، ألا وهو المترجم: محمود محمد الخضري. لقد تجاوز الأستاذ الخضري فكرة الترجمة الحرفية بمراحل، وذهب يحلّق بنثر أفكار الكتاب، وكأن النص نصٌّ له هو، وليس لديكارت. أقول إن الخضري شعر بحرية كاملة عند الترجمة لأني وجدته منذ بداية الكتاب لنهايته ينطلق براحة لا التفات معها، دون أن يشعر ربما، بأنه كان طوال الوقت يتحدث بلغة ومصطلحات أزهرية لا يمكن أن تصدر عن فرنسي، وهكذا يجب أن تكون الترجمة. وهذا ما يجب أن يُدركه القارئ العربي للمترجَمات، فالناس مختلفون، وكل لغة من لغاتهم لها منطق خاص، ومن لم يذهب إلى اللب وقلب المعنى فلن يفهم مما يُقال له شيئاً. الترجمة الحرفية، على الرغم من كل دعاوى منتهجيها، خصوصاً جزئية احترام المؤلف والنص: هي حيلة العاجز، وطريقة المترجم الكسول. سأوضح كيف يكون هذا بمثال يمكن تصوّره بسهولة. الترجمة تشبه بناء البيت لحد كبير، فالمقاول يضع الأساسات في باطن الأرض ثم يرصّ الأحجار، حتى يقوم البناء كاملاً. هذه العملية يسميها المقاولون في بلادنا: بناء العظم. الترجمة الحرفية تساوي عملية بناء العظم. ثم يقوم المقاول بتزيين وتجميل ذلك البناء الخشن وغير الجميل (العظم) فيما يُسمى بعملية التشطيب التي تشمل وضع الألوان الجميلة ورصف أرضية الغرف بالسيراميك والباركيه ووضع الإنارة الفاخرة إلخ. هنا يتضح تماماً أن الكتب المترجمة التي تملأ المكتبات ليست سوى عظم خشن المنظر لا إنارة فيه ولا مرمر ولا روح، لا يُستثنى من ذلك إلا قلّة من الأساتذة ذوي الأسماء المشهورة، الذين هم مثقفون ومفكرون قبل أن يكونوا مترجمين. ومن هنا نعلم شيئاً آخر مختلفا، ألا وهو أن النص المترجم هو حقيقة كتاب آخر، الترجمة كما يقول بعض النقّاد خيانة للنص، هي نص جديد لهذا المترجم، وليس لكاتب النص الأصلي، فديكارت ليس شيخاً أزهرياً.