السؤال المكرر حين كنا أطفالاً ماذا تريد أن تكون؟ طيارا أو دكتورا «طبيبا» كانتا الإجابتين المفضلتين لي ولكثير من أقراني ونحن نردد أنشودة: أنا بدي أصير طيار أهجم وأضرب بالنار يبدو أن هاتين المهنتين ارتبطتا بصورة ذهنية معينة ولم نكن حينها ندرك متطلبات المهن ورغباتنا وقدراتنا واحتياجات سوق العمل. حين وصلنا المرحلة المتوسطة والثانوية بعد ذلك بدأنا نسمع عن التخصصات المختلفة من هندسة كهربائية وميكانيكية ومدنية وعمارة وعلوم وآداب وسياسة واقتصاد وإدارة وغيرها، حينها أذكر أن أحد الزملاء أراد أن يتخصص في الهندسة النووية!! لم يكن هناك توجيه للمسار المهني من الأسرة أو المدرسة ولا جهة تعني بهذا الجانب فالكل يجتهد والتوفيق بيد الله سبحانه. حين يصل الطالب إلى التوجيهي «الثالث ثانوي» يتكرر السؤال ويسمع من المقترحات ما يشتت ذهنه دون وجود معايير علمية واضحة لاختيار التخصص وتحديد المسار المهني سوى «وش رأيك تدرس كذا؟». أعمى يقود بصيراً لا أبالكمُ قد ضل من كانت العميان تهديهِ أذكر أن أحدهم اقترح أن ندرس هندسة بتروكيماوية كان ذلك في بداية الحديث عن تأسيس سابك وانطلاق صناعة البتروكيماويات. أسوأ من ذلك أن بعض الأسر تفرض على أولادها تخصصات معينة هي ترغبها دون رغبة الطالب أو الطالبة. آخرون «وهم كثر» اتجهوا وما زالوا إلى التخصصات التي تنتهي بوظيفة، فالمهم الوظيفة وليس الرغبة أو القدرة. وانتهى الأمر بجيل من الجالسين على المكاتب غير القادرين على أداء أعمالهم، وما زلنا نتساءل عن سبب تدني أداء الأجهزة الحكومية. لم يتغير الوضع كثيراً بعد مرور هذه السنوات بل ازدادت الأمور غموضاً وتعقيداً، وفي ظني أن تحديد المسار المهني من القرارات المفصلية في حياة الشخص إذ يحدد مسار حياته الوظيفية ويلازمه طوال عمره، مما ينعكس على تفاصيل حياته الأخرى وحياة الآخرين. في الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي قدر لي أن أزور مركز التخطيط المهني "Career Planning Center" في جامعة كاليفورنيا كان المركز مقسما إلى عدة أقسام كل قسم يخص كلية من كليات الجامعة موضح به أقسامها وتخصصاتها ومتطلبات كل تخصص وعدد الساعات المطلوبة للتخرج، إضافة إلى المسار الوظيفي بعد التخرج، ومعلومات عن الجهات التي يمكن لخريج هذا التخصص أو ذاك أن يعمل بها، والراتب المتوقع، والتطور الوظيفي، والتخصصات التي يمكن الالتحاق بها في الدراسات العليا وغيرها من المعلومات المفيدة والهامة. كان المركز يضم مرشدين ومستشارين للإجابة عن أسئلة الطلاب وتوجيههم ومناقشتهم واقتراح التخصص الملائم للطالب. احتوى المركز على عدد من النماذج الورقية والمطويات والكتيبات، كل ذلك قبل انتشار برامج الحاسب الآلي وأظن الوضع تطور الآن. فائدة المركز لا حصر لها يوفر كثيراً من الوقت والجهد ويختصر المسافات. المركز لم يكن للطلاب المستجدين فقط بل حتى أولئك الذين لم تناسبهم التخصصات التي يدرسونها ويريدون تغييرها يجدون بغيتهم في المركز. الآن وبعد ما وصلنا إليه من بطالة مقنعة وغير مقنعة ما زلنا نفكر بنفس الطريقة السابقة «وش رأيك تدرس… ؟»، كما أن الطلبة أنفسهم لا يعوون ما هم مقدمون عليه. في لقاء مع أحد المبتعثين في برنامج «أبناؤنا في الخارج» الذي يُعرض عبر القناة السعودية الأولى قال إنه من المشكلات التي يواجهها المبتعثون «في أمريكا تحديداً» عدم تحديد التخصص، فالطالب يحاول الحصول على قبول من جامعة في أسهل التخصصات شروطاً، حرصاً على القبول فقط والانضمام للبعثة، ثم يبدأ في دوامة التغيير، بمعنى آخر الطالب ذهب لأمريكا دون أن يحدد تخصصه.. فمن المسؤول؟ هنا اقتراح لوزارة التعليم العالي، التي أعلم أنها تبذل جهوداً جبارة وقد لا تكون هي المسؤولة وحدها عن كل هذا، بإيجاد مراكز لتخطيط المسار المهني في كل جامعة وضمن برنامج الملك عبدالله للابتعاث والاستفادة من التجارب التي سبقتنا في هذا المجال. ما نحتاجه جيلاً مبدعاً لا عاملاً فقط، وحتى نصل إلى ذلك علينا التركيز على جودة المنتج أو المخرج وهو الطالب في هذه الحالة. . . وحسن اختيار التخصص هو البداية.