كأن المنطقة مسكونة بمنطق الحرب الذي تموضع هنا في الخليج وعلى أطرافه وثبت أوتاد الدمار والموت. وكأن ثروة النفط قد تحولت من نعمة يفترض تسخيرها للتنمية المستدامة، إلى نقمة ووقود لحروب تلد الواحدة من أختها في عملية تناسل مقيتة لم تتوقف منذ عقود الطفرة النفطية الثانية أواخر العام 1979 وبداية العام التالي وما جرته من آثار سلبية على عملية التحديث والدولة المدنية، فضلا عن تعطيل التطور الطبيعي لدول المجلس في شتى المناحي. لم تكد الحرب في شمال العراق تضع أوزارها بتوقيع اتفاقية الجزائر بين العراق وإيران عام 1975 التي بموجبها جرى ترسيم الحدود بتقاسم شط العرب، حتى اندلعت الحرب العراقية الإيرانية «حرب الخليج الأولى» التي تعتبر واحدة من أطول الحروب في القرن العشرين التي امتدت من سبتمبر 1980 حتى أغسطس 1988، ذهب ضحيتها مليون قتيل وملايين الجرحى ودمار هائل وخسائر مادية بلغت 400 مليار دولار وأخرت عملية التنمية في البلدين وفي بلدان دول التعاون عقوداً طويلة. بعد عامين من الحرب اجتاحت القوات العراقيةالكويت في الثاني من أغسطس 1990 حرب الخليج الثانية، وقرر النظام في بغداد تحويل الكويت إلى المحافظة التاسعة عشرة، لتدخل المنطقة في توتر غير مسبوق، وتتبارى الدول الكبرى بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية في تحشيد آلاف الجنود القادمين من مختلف أنحاء العالم وتشكيل التحالف الدولي الذي أدى إلى طرد القوات العراقية من الكويت وتدمير الجيش العراقي فضلاً عن البنى التحتية التي دمرت في العراق. وقد كلفت الحرب، حسب لجنة خاصة بالكونجرس الأمريكي، أكثر من 61 مليار دولار، وكان عقد التسعينات هو عقد الحصار الاقتصادي والسياسي على العراق، الذي توج بغزو الولاياتالمتحدةالأمريكيةلبغداد في العام 2003 بعد عامين على هجمات الحادي عشر من سبتمبر «2001» على برجي التجارة العالميين في نيويورك من قبل تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، حيث أطلق جورج بوش الابن شعاره الشهير «من هو ليس معنا فهو ضدنا»، وخاض على إثر ذلك حربين في أفغانستانوالعراق. الأولى لسحق حركة طالبان الحاكمة وتنظيم القاعدة، والثانية بدعوى وجود أسلحة الدمار الشامل لدى نظام صدام حسين، حيث تبين فيما بعد كذب الادعاءات، إذ لم تجد القوات الأمريكية أثراً لهذه الأسلحة. لقد كلفت الحرب على العراق 1300 مليار دولار والحرب على أفغانستان 300 مليار دولار. لكن لجنة الكونجرس وضعت تقديرات بأن الكلفة الإجمالية للحرب حتى عام 2017 سوف تصل إلى 3500 مليار دولار، في وقت كانت واشنطن تغرق في الدين العام مما أجبر إدارة الرئيس أوباما على التوقيع على مشروع في منتصف أكتوبر 2013 على قانون أقره الكونجرس الأمريكي ينهي الإغلاق الجزئي لإدارات حكومية ويجنب الولاياتالمتحدة العجز عن سداد ديونها. وهو الأمر الذي يسمح بعودة الموظفين الحكوميين الذين تم التخلص منهم مؤقتاً إلى أعمالهم. هذا الإجراء جاء لرفع سقف الدين العام إلى ما فوق 16.7 تريليون دولار، المعمول به حيث إن واشنطن كانت تواجه خطر التخلف عن سداد الديون المترتبة على الخزانة المركزية. يعتبر الاقتصاد الأمريكي أكبر اقتصاد عالمي من حيث الناتج المحلي الإجمالي الذي يلامس 16 تريليون دولار، ومع ذلك تعرض لهذه الخضات الكبرى بسبب الصرف على الحروب الخارجية فضلا عن الأزمات الملازمة للنظام الرأسمالي ومن بينها أزمة الرهن العقاري في العام 2008. وقد تكيفت الولاياتالمتحدة إلى حد ما مع الوضع الجديد لديونها التي أعقبت فائضاً تمكنت إدارة بيل كلينتون من تحقيقه في العقد التسعيني من القرن الماضي. لكن واشنطن ليست العواصم العربية بما فيها عواصم دول مجلس التعاون التي يبلغ إنتاجها المحلي الإجمالي مجتمعة 1.5 تريليون دولار، وهي ليست طهران أو أنقرة أو القاهرة، وكلها عواصم لا يبلغ إنتاجها المحلي الإجمالي تريلون واحد لكل عاصمة. لم تهدأ المنطقة قليلاً حتى جاء الربيع العربي بكل تبعاته المعروفة، وبرزت شياطين التطرف، ليفاجأ العالم على حين غرة باحتلال تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» وسيطرته على الموصل العراقية وفي طريقه لطش 500 مليون دولار من مصارفها، في عملية لم تخرج كل تفاصيلها بعد، ليتمدد في العراق وسوريا. بالتوازي، برزت حركة الحوثيين الذين سيطروا على صنعاء في ليلة وضحاها بعد ست حروب مع الدولة المركزية، تمددت فيها الحركة من محافظة صعدة المعقل إلى مختلف المناطق، بعد أن فشلت النخبة السياسية في أن تكون لكل اليمن، فضلا عن تهاوي الدولة المركزية في الفقر والفاقة والمرض والبطالة، الأمر الذي فتق جروحا كبيرة يصعب مداواتها بطريقة حب الخشوم وتبويس اللحى وعفا الله عما سلف. باختصار، تناسلت الحروب في المنطقة وضاع المواطن بين البطالة والفقر والأمية ليصبح لقمة سائغة ووقوداً للتنظيمات المتطرفة التي تجد في حز الرؤوس أقصر الطرق للجنة. بل إن عديداً من الساسة ينذر أبناء المنطقة بحقبة أكثر سواداً مما نحن فيه، فقد غاب العقل وتبخرت الثروة وأصبح تنظيم داعش سبباً في تحالف دولي يستنزف ما تبقى من فوائض مالية وعوائد نفطية أضحت غير ذات فائدة لأبناء المنطقة. إن العودة للداخل الخليجي ومواطنه هي الحل وغير ذلك ليس سوى زبد يذهب هباء.