لم يكن هناك تشابه كبير بين السفينة البدائية التي نقلت الهاربين من الحرب والجوع والقتل من اللاجئين الفلسطينيين والسوريين عبر المتوسط إلى سواحل أوروبا وبين «تايتنك»، تلك السفينة العملاقة التي أذهلت العالم في عام 1912م، باعتبارها أكبر عابرة محيطات. وعلى الرغم من تشابه نتائج قسمة البحر، التي وحدَّت الناتج إلى نهاية مأساوية نسميها «الغرق»، إلا أن النسخة العربية من السفينة «تايتنك» عبرت عن الفارق الشاسع بين حكايات الموت الذي يطارد اللاجئين الفارين من الاحتلال والقمع، الباحثين عن حلم ليلة دافئة، بعيدة عن طلقات الرصاص والقصف وسجون الاحتلال. حملت السفينة أحلام الهاربين إلى المجهول عبر المتوسط، إلى مقبرة البحر بالقرب من سواحل إيطاليا. كان الفارق أن تايتنك تحمل على متنها أثرياء أمريكا وبريطانيا، في رحلة فارهة، لفتت أنظار العالم الذي وثَّق هذا الحدث الضخم لعبورها عبر المحيط الأطلسي من مدينة ساوثهامبتون إلى نيويورك، وسط تفاعل عالمي لرحلة السفينة الضخمة، المدعمة بأحدث التقنيات التي تتناول تعقيد بنائها واستحالة غرقها، وفي رابع يوم من رحلتها الأسطورية غرقت السفينة بعد ارتطامها بجبل من الجليد، وغرق ألف من ركابها، سقطوا من مقصوراتهم الفخمة، وأبراجهم العاجية، من أعظم سفن التاريخ، التي نُسجت حولها أشهر القصص. ارتطمت تايتنك بالجليد، بينما غرقت سفينة اللاجئين نتيجة لعطل فني، أو لارتطامها بالصخور البحرية، أو تصادمها مع سفينة أخرى، أيّما كانت الأسباب، كان الموت واحداً بعد عجز السفينة المكتظة بركابها عن حمل الهم العربي، وما ترك خلفه من ويلات ناءت بأحمالها السفن. لم تمر تايتنك بين أمواج المتوسط، ولم ترسم خارطة طريقها تاركة خلفها وطناً مُتخَمَاً بالصراعات لتحلم بوطن بديل له، لم تنتظر رحلة مجهولة لقلوب صغار ونساء ضجت بهم أوطانهم، فأطلق البحر عليهم رصاصة الرحمة، وضمّهم حتى لا يعيشوا ويلات حكايات موجعة لهجرة مجهولة. كان ركاب تايتنك يحملون بطاقة دعوة على متن سفينة لرحلة بحرية على معزوفات بيتهوفن، ثم تلقفهم البحر، بينما كانت معزوفات الخوف تملأ سفينتنا العربية. كان نداء الاستغاثة واحداً، وكان الموت واحداً، ولكن القصص كانت مختلفة، ما بين سفينتين ابتلعهما البحر، كان البحر حنوناً بما يكفي لأن يضم خوف وفزع الأمهات من صور أجساد التصقت ببعضها لتعانق هيبة الموت، صار البحر وطناً أبدياً، وظلت الصورة التي لم يكتبها الروائيون، ولم تخطفها كاميرات السينما حكاية لم تشبه رواية أرنست همنجواي «العجوز والبحر»، عندما حلم بطل الرواية الصياد سانتياجو بسمكة فضية كبيرة، وعندما اقترب من اصطيادها تبددت أحلامه باستيلاء أسماك القرش عليها، وعلى حلم سانتياجو. كانت النهاية أن أسماك قرش المتوسط افترست الحلم العربي، والحالمين، ولم تترك في البحر سوى فتات الذكريات للأسماك الجائعة، التي تلقفت ما تبخر من حلم وطن على مرمى موج من هذا البحر.