كان أغلب جيل الستينيات العربي – وما زال – يحلم بتحقيق التضامن العربي.. وقبله: الرفعة والكرامة، والحرية والعدالة والمساواة، في كل أرجاء ومضارب هذا الوطن العربي، الذي نكاد نفقده بالكامل، في هذه الأيام، خاصة مع وجود أجيال لاحقة لا ترى أبعد مما يمتد إليه نظرها، وتكاد تسير دون هدى في ظلام (رسمي) دامس. لقد تأثر جيل الستينيات بمضمون أنشودة: بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان؟ ومن نجد إلى يمن ** إلى مصر فتطوان؟ فلقد تطلع ذلك الجيل، بعد نكبة 1948م، إلى اليوم الذى يتحقق فيه ولو الحد الأدنى من التضامن والاتحاد فيما بين العرب، ولا نقول «الوحدة».. باعتبار «الاتحاد» أكثر عملية، وأقل «خيالية». صحيح، أن الحركة «الناصرية» في مصر أشعلت فتيل هذا الشعور الاتحادي (التضامني) المحمود، والمفيد – إن تحقق في الواقع – لكل أطرافه. ولكن الناصرية خذلت العرب، بل وهزمتهم.. عندما فضّل زعيمها أن يكون حاكماً عسكريَّاً مستبدَّاً، واستبعد الدمقرطة والمؤسساتية – حتى في المدى المتوسط – ثم زج بالعرب في حرب 1967م، التي كانت مهزلة كبرى، ووصمة عار في جبين الجيوش العربية المتعنترة – على شعوبها فقط – والملتفة حول قائد أوحد.. أوجدته ظروف بائسة وتعيسة، وقدسه غوغاء.. لأسباب تنم عن شذوذ فكري، ورغبة دفينة في العبودية، واستمراء للتسلط والفساد. كانت مأساة 1967م الفأس التي قصمت ظهر الأمة.. ورمت بها في مزيد من الفرقة، ومزيد من الضعف والانكسار والتخلف والهوان. ويخطئ من يدَّعي أن حرب 1973م قد شفت العرب من تلك النازلة الكبرى.. فما زال عربنا يعانون مُرَّ الأمرّين من 1967.. ولا أظن أن عاقلاً يمكن أن يدّعي أي «بطولة» في 1967م – كما يدّعي بعض محترفي التهريج والمغالطات. أما «البطولة» العربية التي تحققت في عام 1973م فكانت مثقال ذرة. إذ كانت محدودة وضيقة، بل وقاصرة.. خاصة بعد أن تمخضت عنها اتفاقية «كامب ديفيد».. التي مكنت لإسرائيل – بقوة وبزخم أكبر مما مضى – النمو والتوسع، واكتساب «شرعية» دولية واسعة، ومواصلة مشروعها الصهيوني البغيض.. الذي يستهدف كل العرب، وفي مقدمتهم مصر. يا ليت أحداث العقود العربية السبعة الماضية تعلمنا الدرس الذي لم نستوعبه بعد، وخلاصته: ضرورة قيام المصلحين العرب – أينما وجدوا – بالعمل على إدخال بلادهم إلى العصر.. عبر الأخذ بوسائل التقدم التي أخذت بها الأمم النابهة، وفي مقدمة ذلك: المؤسساتية السياسية، التي – إن تم تبنيها في الواقع الفعلي – تمهد الطريق للنهوض والتقدم السليمين في كل مجالات الحياة، وتكسب الآخذين بها القوة الدولية التي تتناسب والإمكانات الفعلية لهم. ومن ثم يمكن السعي – السليم والمدروس – لاحقاً نحو الاتحاد العربي، وتكوين تكتل عربي قوي ومتماسك، لا يأخذ من الناصرية إلا مبدأ الاتحاد والتضامن.. وهو مبدأ أزلي قديم، لم تفعل الناصرية أكثر من رفعه كشعار. ويمكن – بل يجب – أن يرتبط التكتل العربي المرجو بتحالف إستراتيجي مع من يرغب من البلاد الإسلامية.. لتكون للجميع كلمة – موحدة أو شبه موحدة – مسموعة على الساحتين الإقليمية والعالمية. تلك أمانٍ.. ما زالت أحلاماً.. بل إن هذه التطلعات تكاد أن تصبح (مع مرور الأيام) في عداد المستحيلات.. بسبب تدهور الوضع العربي وتحوله، يومياً، من سيئ لأسوأ، وازدياد سطوة وشوكة أعداء هذه الأمة، وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني الغاصب. لقد تراجعت الطموحات العربية اليوم وتواضعت كثيراً.. بعد أن عزّ حتى الأمن والبقاء…؟! إذ نرى في الأفق الآن تمكن التحالف الصهيوني – الاستعماري، المدعوم (صراحة وضمناً) بالإرهاب والتطرف والاستبداد والطائفية والمذهبية، وهو يوشك على تحقيق أولى خطوات مشروعه الكبير ضد العروبة والإسلام.. هذا المشروع الذي يتجسد في: استتباب إسرائيل كقوة إقليمية عظمى ضاربة.. تهيمن على كل المنطقة.. بعد أن تقسم معظم بلادها، وتحيلها إلى دويلات منهكة مستضعفة لا حول لها ولا قوة.. تأتمر – أو يأتمر أغلبها – بأوامر وتوجيهات تل أبيب (القدس). اللهم لا ترنا هذا اليوم الأسود الأغبر.