تذكّرت اليوم، ما كان يُروى من حكايا وطرائف عن المدرِّس الأستاذ «نجم»، الذي علّم الكثيرين من الأولاد مبادئ اللغة العربية وقواعدها طوال المرحلة الابتدائية في مدارس مدينتي «صور». وكان رحمه الله وأحسن إليه لا ينطق إلا باللغة الفصيحة الثقيلة المقعَّرة، وبلكنة لها إيقاع وصدى خطابي تميّزت بقطف مخارج الحروف على نغم فيه الكثير من غبار التاريخ وصهيل خيل العرب! وفيه عنفوان «عمرو بن كلثوم»، وبسالة «عنترة»، ولفتات «لبيد» ورقّة «طَرَفة بن العبد»!! فمنذ البدء توّج نفسه حارساً حامياً للغة العربية وبوكالة شَرَفية من السادة الأجلاّء: سيبويه، وأبو الأسوَد الدؤلي، والفراهيدي، وباقي «ربع» الحبايب من عشيرة مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاً...! وبتكليف من ضميره «القومي» العربي على أن لا يسكت على خطأ أو أي إسفاف لغوي، وأن يحارب اللهجة العامية بكل الوسائل وبكل ما مَلَكَتْ يمينه ويساره!! في أحد أيام الصيف كان حفظه الله ذخراً للتراث ماراً يتمشّى في حارات وزواريب المدينة، عندما لَفَتَتْ نظره عبارة مكتوبة بالخط العريض على زجاج أحد صالونات الحلاقة الشعبية تقول: ... صالون «الحلاَّء» أبو السعود وأولاده! حيث وضع الكاتب الخطاط الهمزة مكان حرف القاف في كلمة «حلاّق»! مما جعل أستاذنا يصرّ و»يسرس» على أسنانه غَضَباً، ويجأر ويزأر، ويزمجر ويهمدر، ويرغي ويزبد، ويهجم كالصاروخ بعصاه ضارباً لوح الزجاج الكبير، الذي تناثر إلى مئات القطع المختلفة الأحجام مع صوت هائل ظنّه أهل الزاروب عبوة موقوتة ناسفة!! وعلى الفور نهض «الحلاّء» عفواً الحلاّق» أبو السعود كالمجنون بعد أن رأى ما فعل الأستاذ وصرخ بأعلى صوته كثور جريح ناحية أولاده الخمسة: «اشلحوه، لها الكلب بالأرض»! وبلمح البصر، أصبح معلّمنا وبما يحمله ويختزنه من «فقه اللغة» مشلوحاً بين أرجل و»صرامي» الشباب! وقد أشبعوه ركلاً و»قرصاً» وعضّاً!! تجمهر الناس على صوت انكسار الزجاج وعلى همروجة الخناقة والضرب من طرف واحد. وبصعوبة بالغة خلَّصوه من براثن وقواطع وشواريخ أولاد «الحلاّء» عفواً الحلاق !! وكادت أن تُزهق روحه، وتختفي ريحه! وعلى الرمق الأخير، أوقفه بعض «الأوادم» على رجليه بعد أن انكسرت عصاه من هول الضربة، واتكأ على سواعدهم وهو يلهث وقد نزلت نظارتاه على أرنبة أنفه «مطعوجة»، وأرجعوا له طربوشه على رأسه، ثمّ ما عتّم أن تفوّه وهو مسنود بالمواطنين وقال كخطيب في سوق «عكاظ»: يا معشر الناس، يا سادة قريش، ويا أعيان الأوْس والخزرج... واللهِ... واللهِ... إنني لم أعبأ البتّة بما نزل على بدَني من ضرب مبرّح ونعال مختلفة الأطوال والأحجام والأشكال، بقدر ما صعقني «خطأ» قول أبيهم الجاهل: «اشلحوه أرضاً»! عوض أن يقول: «اطرحوه أرضاً»! أيها الاخوة في الصرف و»القبض» والنحو، والعروض والبيان والبديع، أعتقد بأننا اليوم «مشلوحون» «مطروحون» و»مرميون» بين «صرامي» كل اللغات واللهجات واللكنات...!